لماذا يعود الأطفال المؤهلون إلى مراكز الإصلاح في تونس

تشير البيانات في تونس إلى عودة ثلث الأطفال الذين تم تأهيلهم في مراكز الإصلاح إليها بعد مغادرتها، ما يعني أن كل برامج الإصلاح والتأهيل داخل تلك المراكز لم تؤت أكلها. ودعا مختصون في شؤون الطفولة إلى إعادة النظر في مرافقة الأطفال داخل مراكز الإصلاح مع مواصلة برامج الدعم والتأهيل بعد الخروج منها. ويعتبر جنوح الأطفال في المجتمع التونسي ظاهرة ذكورية بالأساس.
تونس - يتم في تونس إيواء الأطفال الجانحين بمراكز الإصلاح من طرف السلط القضائية ذات العلاقة بهذا المجال، وذلك بهدف رعايتهم وتهذيب سلوكهم وتأهيلهم تربويا ومهنيا واجتماعيا ونفسيا للاندماج مجددا في المجتمع. ومن المتعارف عليه أن ينتفع الطفل الجانح برعاية نفسية مكثفة تعنى خاصة بالتعرف على ملامح شخصيته وإمكانياته الذهنية والبدنية ومدى انعكاسها على تصرفاته وسلوكه.
لكن مختصين في شؤون الطفل أقرّوا بوجود عوامل كثيرة تتسبب في عودة الأطفال المتأهلين إلى مراكز الإصلاح بعد خروجهم منها وقضائهم فترة تأهيل اعتبروا أنها “دون المأمول” ولا تكرّس لتأهيل نفسي واجتماعي يمحو تداعيات المرحلة الصعبة التي مروا بها. واعتبر رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل معز الشريف، في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، أن كل برامج الإصلاح والتأهيل داخل مراكز الإصلاح أو بعد الخروج “لا تؤتي أكلها”، مضيفا أن نسبة العودة تتجاوز الـ30 في المئة.
وبيّن أن هذه النسبة تنذر بالخطر وتدعو إلى إعادة النظر في مرافقة الأطفال داخل مراكز الإصلاح مع مواصلة برامج الدعم والتأهيل بعد الخروج. وانتقد مسألة الاكتظاظ في بعض الإصلاحيات الذي يتكتم عليه المسؤولون، وخاصة في إصلاحية تونس، ونقص العنصر البشري وغياب الأخصائيين النفسانيين في الكثير من الأحيان ما يتسبب في نقص التعهد النفسي بالأطفال. كما دعا إلى مراجعة التعهد بالأطفال داخل الإصلاحيات وتفعيل آلية الحرية المحروسة (يقوم بمراقبة الأطفال مندوبون قارون ومندوبون متطوعون) نتيجة العقوبات البديلة عوض العقوبات السالبة للحرية.
وقال الشريف في تصريح سابق لوكالة الأنباء الرسمية إن نسبة الاكتظاظ في مراكز إصلاح الأحداث (الإصلاحيات) تفوق الـ180 في المئة، مشيرا إلى أنه لم يقع البت بعد في ملفات وقضايا أغلب الأطفال. وأضاف الشريف أن المتدخلين في الشأن القانوني وشأن الطفولة شددوا في ندوة دراسية، أقيمت في عام 2022 لتدارس التدابير البديلة لاحتجاز الأطفال الجانحين، على ضرورة الابتعاد عن تجريم الجنح الصغرى التي يرتكبها الأطفال تفاديا للاكتظاظ في مراكز الإصلاح.
وأوضح المتحدث أن “أغلب الأطفال بتلك المراكز ينتمون إلى العائلات التي تفتقر إلى الإمكانات اللازمة للإحاطة والنهوض بهم وإبعادهم عن مصادر الجريمة والسلوكات المحفوفة بالمخاطر”. كما ذكّر بـ”وجود عقوبة بديلة وحيدة تنص عليها مجلة حماية الطفولة وهي إمكانية الوساطة منذ الإيقاف مرورا بقاضي الطفولة وهي التدخل بالصلح لفائدة الطفل”.
من جهته عدّد الأخصائي النفسي في علم النفس العصبي السريري مروان الرياحي، في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، أهم العوامل التي تحول دون العودة، منها ما يهمّ التأهيل المهني الاجتماعي داخل مراكز الإصلاح والتحضير للحياة الاجتماعية بعد الخروج، فضلا عن البيئة الحاضنة والوصم الاجتماعي بعد الخروج. وأبرز أن التأهيل المهني الاجتماعي داخل مراكز الإصلاح مهم جدا لضمان عدم العودة إليها وبناء حياة اجتماعية بعد العقوبة بفضل المهارات التي تعلمها الأطفال، وهو ما يؤسس لحياة نفسية سليمة (حياة نفسية تتكون من الجوانب العاطفية والمهنية والعلائقية). واعتبر أن التحضير لما بعد مراكز الإصلاح يستوجب تأهيلا نفسيا، أي بناء صورة ذاتية إيجابية مصحوبة بتأهيل مهني اجتماعي.
ومراكز إصلاح الأطفال الجانحين هي مؤسسات عمومية ذات صبغة إدارية وتتمتع بالاستقلال المالي وترجع بالنظر إلى الهيئة العامة للسجون والإصلاح تحت إشراف وزارة العدل. وهي مؤهلة بحكم النصوص القانونية لاحتضان الأطفال الجانحين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و18 سنة كاملة، والمودعين بها بموجب قرار قضائي صادر عن السلطة القضائية المختصة حسب التراتيب الجاري بها العمل.
وتوجد في البلاد التونسية خمسة مراكز إصلاح، خصصت أربعة منها للذكور بينما خصص مركز واحد للإناث، ولئن تشابهت جميعها من حيث نوعية الخدمات المقدمة وطرق التعهد بالأطفال فإنها تختلف حسب بنيتها الهيكلية والتجهيزات المتوفرة فيها، بالإضافة إلى وجود بعض الخصوصيات التي يمكن ردها إلى المحيط الاجتماعي والثقافي الخاص بكل مركز. ويتم ّ قبول الأطفال في مراكز الإصلاح بناء على قرارات قضائية صادرة عن السلطات القضائية المختصة ووفق توزيع جغرافي محدد. وتوزع مراكز الإصلاح الخمسة على المروج والمغيرة ومجاز الباب وسيدي الهاني وسوق الجديد.
وتؤكد الأرقام الرسمية المقدمة من قبل مراكز إصلاح الأطفال خلال سنتي 2018 و2019 ّ أن عدد الأطفال المودعين في مراكز الإصلاح بلغ 1322 و1294 طفلا على التوالي من جملة 8309 أطفال محكوم عليهم و6921 قضية مفصولة في مادة جناحي الأطفال، ومن إجمالي 481 طفلا محكوما عليه و373 قضية مفصولة في مادة جنائي الأطفال خلال نفس الفترة. وفي المقابل يلاحظ المراقبون انخفاضا كليا في عدد مطالب الوساطة المرفوعة لدى مندوبي حماية الطفولة، مقارنة بعدد الأطفال المحكوم عليهم، والذي بلغ 780 مطلبا سنة 2018 ثم تراجع إلى 649 مطلبا سنة 2019. ويعتبر جنوح الأطفال في المجتمع التونسي ظاهرة ذكورية بالأساس، ومن شأن المعطيات حسب الجنس أن تعكس هذه الخاصية حيث ينقسم العدد الجملي للأطفال المودعين في مراكز الإصلاح إلى 1248 و1208 طفلا مودعا مقابل 74 و86 طفلة مودعة خلال سنتي 2018 و2019.
وجاء في التقرير السنوي العام الحادي والعشرين حول إصلاح الأطفال الجانحين أنه تمّ تسجيل 49 حالة تعنيف خلال الفترة 2013 – 2016 و5 حالات تعذيب لأطفال خلال سنتي 2016 و2017. كما لم يتمّ تمكين طفل من حقّه في حضور المحامي ولم يتم تمكين دفاع أحد المتّهمين من الاطّلاع على الأبحاث الأوّليّة لدى الضابطة العدليّة. وأكد التقرير أن فضاءات التكوين في مركزي المروج ومجاز الباب لا تستجيب لمقوّمات النظافة والحماية والتهوية والصيانة. كما لم تتمّ صيانة مركز ملاحظة الأطفال بمنّوبة منذ إحداثه سنة 1993.