الصحافيون في غزة مجبرون على أن يكونوا روبوتات وسط الرعب والعجز

حياة الصحافيين في غزة انقلبت رأسا على عقب بعد الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل.
الجمعة 2024/02/09
جميع الصحافيين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة في غزة

غزة - يخاطرون بحياتهم كل يوم وكل دقيقة بعيدين عن منازلهم التي اضطروا لمغادرتها.. ثمانية موظفين في فرانس برس لا يزالون يعملون لتأمين التغطية في قطاع غزة رغم الظروف المأساوية التي يعيشونها منذ 7 أكتوبر.

ويروي الصحافيون كيف أصبح عملهم اليومي محفوفا بالخطر والخوف تحت القصف وفي ظل موت يحيط بهم من كل مكان. لكنّهم تحدّثوا أيضا عن تصميمهم على مواصلة توثيق الحرب المتواصلة منذ أربعة أشهر بين حماس وإسرائيل في قطاع غزة.

قبل 7 أكتوبر، غطّى الصحافيون في غزة ست حروب. كان الحصار جزءا من حياتهم اليومية منذ نحو 17 عاما، وقد اعتادوا على قيود التنقل والحرمان والمشارح والجنازات. لكن بعد الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل انقلبت حياتهم رأسا على عقب. ويروي عادل الزعنون الصحافي في غزة منذ 30 عاما “قرابة الساعة السادسة صباحا، كنت في الخارج وسمعت أصوات قصف بدت كأنها تأتي من كل مكان. بدأنا نتساءل ما إذا كان ذلك قصفا إسرائيليا أو إطلاق صواريخ من جانب حماس”.

ويضيف “اتصلت بجميع زملائي في الوكالة وقررنا أن نأتي جميعنا إلى المكتب على الطريق، اتصلت بجميع الناطقين باسم حركتي حماس والجهاد الإسلامي. جميعهم قالوا لي إنهم لا يعرفون شيئا”. وتابع “في النهاية، قال لي أحدهم ستصدر كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) بيانا”. بعدها، أعلن بيان لقائد القسام محمد الضيف أن عملية “طوفان الأقصى” بدأت.

وبعد أربعة أشهر من بدء الحرب يعمّ الدمار قطاع غزة، ولا يتردّد الصحافيون في التوجّه إلى مواقع القصف. في كل مرة يواجهون الألم والمعاناة وفي بعض الأحيان غضب الناجين وفي كل مرة يشعرون بالرعب إزاء الجثث المشوهة التي غالبا ما تكون عائدة لأطفال والتي يفترض أن يصوروها أو يصفوها بالكلمات.

ويروي محمد عبد، وهو مصوّر منذ 24 عاما، “عندما يكون الاتصال بالإنترنت متوافرا، نتحدث عبر مجموعات صحافيين على واتساب لنخبر بعضنا عن موقع القصف. وعندما يكون الاتصال مقطوعا، نحاول أن نجد طريقنا من خلال ملاحقة الضجة والناس”.

في كل مرة يواجه الصحافيون الألم والمعاناة إزاء الجثث المشوهة التي يفترض أن يصوروها أو يصفوها بالكلمات

وأصبح الذهاب في سيارة لإعداد التقارير تحديا حقيقيا مع وجود أكثر من مليوني نازح، معظمهم اليوم في رفح في جنوب قطاع غزة، “هناك زحمة سير في كل مكان ونحتاج إلى التسلل بين أفواج النازحين والخيام التي نصبت في وسط الشوارع والأكشاك المنتشرة في كل مكان والأحياء التي أصبحت ركاما”.

ويوضح عادل الزعنون “قد يصل سعر لتر البنزين إلى 45 دولارا. لذلك نفضّل في بعض الأحيان أن نمشي ساعة بدلا من استخدام السيارة لأننا لا نعرف ما إذا كنا سنجد الوقود في اليوم التالي، وقد تكون أمامنا رحلة أهم للقيام بها”.

وترسل التقارير والصور التي يجمعها الفريق الى مكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وكالة فرانس برس في نيقوسيا، حيث يتم تحريرها وتدقيقها قبل بثها لوسائل الإعلام في كل أنحاء العالم.

وفي بداية الحرب، ظلت الوكالة لفترة طويلة تؤمّن بثا مباشرا من داخل مدينة غزة. وكان ذلك ليكون مستحيلا لو لم يعمل أحمد عيسى التقني في مكتب الوكالة في غزة، رغم الخطر والفوضى، على تركيب ألواح شمسية لتزويد المكتب بالكهرباء على مدار ساعات اليوم بعد انقطاع التيار في القطاع. وسمح ذلك بتشغيل كاميرا للنقل المباشر على مدى أسابيع طويلة حتى بعد مغادرة الصحافيين. وسمح لهم أيضا بشحن بطاريات كاميراتهم وهواتفهم. وأحمد عيسى هو العنصر الوحيد في الفريق الذي تمكّن من مغادرة غزة في نهاية يناير.

وبعد أربعة أشهر أصبح الإرهاق واضحا. ويقول الزعنون “نحن نعمل منذ أربعة أشهر 24 ساعة في اليوم لكن علينا القيام بذلك لأننا نشاهد غزة تختفي أمام أعيننا”.

ويضيف “المنازل والتراث التاريخي يدمَّران، الضحايا يسقطون، كلّ شيء يختفي تحت القصف الإسرائيلي. لا يوجد مكان آمن، رأيت أطفالا يخرجون تحت القصف للبحث في حاويات النفايات عن قطعة خبز ليأكلوها. كانت شفاههم متشققة، ويظهر بوضوح أنهم لم يشربوا الماء منذ فترة طويلة”.

وتشاطره مي ياغي، المراسلة في غزة منذ 16 عاما شعوره بالعجز والإرهاق. حيث تقول “عندما حصل تشكيك في حصيلة القتلى في غزة التي تعلنها حماس، ذهبت إلى المستشفيات لفهم الطريقة التي تقوم بها وزارة الصحة التابعة للحركة بإحصاء القتلى. واطلعت بالتفصيل على النظام المعلوماتي المستخدم لتسجيل ضحايا الحرب: القتلى في خانة والمتوفون لأسباب طبيعية في خانة أخرى. وأعدّت موضوعا عن ذلك”.

الصحافيون في غزة غطّوا ست حروب، كان الحصار جزءا من حياتهم اليومية منذ نحو 17 عاما

وتضيف ياغي “العمل معضلة لأننا جزء من الضحايا ومن المعاناة، نتظاهر بالقوة لطمأنة المحيطين بنا والذين يحبوننا. وفي الوقت نفسه نشعر بالمسؤولية المترتبة علينا لنعمل. معاناة الناس تفاقم معاناتي وتشعرني بقهر وعجز”.

وأصبح العمل أكثر صعوبة خصوصا بعدما دعت القوات الإسرائيلية سكان مدينة غزة حيث يعيش معظم صحافيي الوكالة الى المغادرة نحو الجنوب. وفي 13 أكتوبر اضطروا لترك منازلهم ومكتب فرانس برس التي كانت حتى ذلك الحين بين وسائل الإعلام الدولية القليلة التي احتفظت بمكتب في غزة.

وبعد ثلاثة أسابيع، أصيب مكتب فرانس برس بضربة أحدثت فيه أضرارا كبيرة، ما شكّل ضربة جديدة لأعضاء الفريق الذين كانوا يعتبرون المكتب بمثابة بيتهم الثاني. وتوقفت الكاميرا التي كانت موضوعة على شرفة في المبنى والتي سمحت ببث مباشر للعالم منذ بداية الحرب، عن العمل بعد أيام قليلة.

وتساهم العزلة في زيادة الإرهاق منذ أخضعت إسرائيل قطاع غزة لـ”حصار مطبق”، ففي 9 أكتوبر أصبح الصحافيون معزولين أكثر من أيّ وقت مضى.

ولم يعد بإمكان أي زميل من مكتب القدس أو من أيّ مكتب آخر تابع للوكالة في العالم أن يصل الى غزة لمساعدتهم، كما كانت الحال خلال الحروب السابقة. حتى الاتصالات الهاتفية مع زملائهم في القدس، والتي كانت يومية، أصبحت قليلة وغير ممكنة إلا بشكل متقطع جدا. وفي ظل هذه الظروف يشعر الصحافيون أنهم محاصرون. ورغم كل الجهود التي تبذلها الوكالة مع كل السلطات والدول المعنية، لم تسمح السلطات الإسرائيلية لأيّ صحافي من فرانس برس بمغادرة غزة.

ويزداد الشعور بالخطر يوما بعد يوم خصوصا مع ارتفاع عدد الصحافيين الذين قتلوا بالقصف. وبحسب الأرقام الصادرة عن لجنة حماية الصحافيين في 2 فبراير قتل 85 صحافيا وعاملا في مجال الإعلام في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر.

ويقول عادل الزعنون “في أحد الأيام أدت ضربة إلى مقتل عدد من زملائي على مقربة مني. تخيّلوا: أصدقاؤكم وزملاؤكم يموتون أمام أعينكم. تخيّلوا أن تستيقظوا على صوت قصف شديد وأن تروا أشلاء بشرية تتطاير في كل الاتجاهات وأن تقع الخيمة على رؤوسكم ويتساقط عليكم طن من الرمال والغبار”.

الخوف يزداد من الاستهداف لأن الصحافيين يُتهمون في بعض الأحيان بالتواطؤ مع حماس

ويضيف “نعلم جميعنا أنه في أيّ لحظة قد يأتي دورنا، عائلاتنا تعرف ذلك أيضا وتشعر بالهلع. عندما تكون هناك اتصالات يتصل بنا أطفالنا وزوجاتنا طوال الوقت لمعرفة مكاننا وماذا نفعل. يطلبون منا ألا نبقى بعيدين عنهم لفترة طويلة وأن نكون حذرين لأنهم يعلمون أننا نذهب إلى كل مكان وسط الموت مع أمل أن ننجو منه”.

ومنذ أبلغ الجيش الإسرائيلي وكالة فرانس برس بأنه لا يستطيع “ضمان سلامة” صحافيي الوكالة في قطاع غزة، شعر الجميع بالخطر لمجرّد كونهم صحافيين. ويقول محمد عبد “إن ارتداء سترة صحافة المضادة للرصاص لا يحمينا، فنحن معرضون لخطر الموت في أي لحظة”.

ويروي المصوّر يحيى حسونة أنه في أحد أيام أكتوبر “أخبرنا سكان بأنه تم تحذيرهم بأن المبنى الذي يعيشون فيه سيقصف. تمركزنا مع العديد من مصوّري الفيديو الصحافيين تحت شرفة المبنى المقابل. وبما أن القصف لم يحدث غادرت. لكن بعد دقائق استُهدف المبنى الذي كان يتمركز فيه الصحافيون، حيث قتل ثلاثة زملاء”.

ويزداد الخوف من الاستهداف لأن الصحافيين يُتهمون في بعض الأحيان بالتواطؤ مع حماس واتهمت إسرائيل بعضهم بأنهم كانوا على علم مسبق بهجوم 7 أكتوبر. وهي اتهامات تبدو في غير مكانها.

ويقول عبد “يتهموننا بالتحيّز لكننا نبقى مهنيين، نحن على اتصال دائم بمكتب الوكالة في القدس ونبقى صحافيين، حتى عندما يكون جيراننا وأصدقاؤنا وأقاربنا تحت القصف”.

ومنذ 7 أكتوبر، قدمت منظمة “مراسلون بلا حدود” شكويين بشأن جرائم حرب ارتكبها، بحسب قولها، الجيش الإسرائيلي ضد صحافيين فلسطينيين. ونددت لجنة حماية الصحافيين في تقرير نشر قبل مقتل صحافيَين من شبكة “الجزيرة” القطرية بضربة إسرائيلية في 7 يناير، “بميل واضح لدى الجيش الإسرائيلي لاستهداف الصحافيين وعائلاتهم”.

ومطلع فبراير، ندد خمسة خبراء مستقلين منتدبين من الأمم المتحدة في جنيف، بـ”هجمات” ضد وسائل الإعلام في غزة وبـ”إستراتيجية متعمّدة” تتبعها إسرائيل لإسكات الصحافيين. ومن الأمور التي تثبت ذلك، رفض معظم أصحاب الشقق تأجيرها لصحافيين خوفا من استهداف المبنى التي تقع فيه. وبالتالي، يدفع الصحافيون في بعض الأحيان إيجارات أعلى بخمس مرات من غيرهم لإسكان عائلاتهم.

ويبدو في بعض الأحيان أن الشكوك تنشأ من حقيقة بسيطة هي أن الصحافيين في غزة على اتصال منتظم مع مسؤولي حماس. لكن هذه الاتصالات لا مفرّ منها، كما يوضح عادل الزعنون. فكل يوم تعلن الحكومة الإسرائيلية وحكومة حماس التي تسيطر على السلطة في غزة منذ العام 2007، عمليات جديدة وحصيلة قتلى جديدة وتتبادلان الاتهامات والتهديدات.

ويتوجّب على الوكالة أن تحاول بشكل منهجي الحصول على رد المعسكر الآخر، وهو شرط أساسي للاستحصال على معلومات متوازنة ومحايدة.  كما يحصل في تغطياتها في كل بلدان العالم. فهي تبقى على تواصل مع كل سلطات المناطق التي تتواجد فيها، وتحافظ على المسافة الضرورية لممارسة صحافة مستقلة، بما يتوافق مع مبادئ الموضوعية والحياد.

Thumbnail

ويقول الزعنون الذي بدأ العمل في غزة في وقت كان فيه القطاع تحت سيطرة السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، “هناك عدد قليل من الصحافيين في غزة، ولم يعد هناك الكثير من المسؤولين أيضا، لذلك فهو عالم صغير حيث ينتهي المطاف بجميعنا بمعرفة بعضنا البعض”.

في المقابل، لا يوجد أيّ اتصال مع الجناح العسكري لحركة حماس. ويقول الزعنون “إنهم منضبطون جدا ولا يتحدّثون إلا عبر البيانات الصحافية”.

ويضع كل ذلك صبر الصحافيين على المحك فمنذ تركوا منازلهم في أكتوبر، نام الصحافيون في بعض الأحيان في سياراتهم، وفي أحيان أخرى تحت خيام نصبت في باحة مجمع ناصر الطبي بخان يونس في الجنوب.

اليوم، يتكدّس جميع صحافيي وكالة فرانس برس في منزل في رفح مع عائلاتهم، ويبلغ عددهم 50 شخصا في المجموع. يمضون وقتهم خارج ساعات العمل في البحث عن ماء للشرب أو طعام، أو في غسل الملابس القليلة التي أخذوها معهم والتي غالبا ما تكون مغطاة بغبار الأنقاض، بأيديهم.

وتقول مي ياغي “انقلبت كل حياتي أصبحت مشردة ولا أشعر بالأمان. النوم والأكل والشرب والاستحمام، كل ذلك أصبحت له حسابات في الأشهر الأخيرة. حاليا، نرضى بالاستحمام بمياه باردة مرة كل أسبوع على الأقل رغم برودة الجو”.

وتضيف “مئة يوم دون ساعة واحدة من الخصوصية على الإطلاق. أقصى أحلامي الآن أن أجلس ساعة واحدة من دون سماع أيّ صوت. ساعة واحدة أشرب فيها القهوة وأدخن السجائر.. لا صوت قصف ولا بشر ولا زنانة ولا شيء”.

فقدت ياغي جيرانا وأصدقاء وأقارب، لكنها تقول “حتى الآن مشاعري مجمدة. لا وقت للحزن، لو فعلت ذلك سأنهار لأنهم كثر. يجب أن أبقى قوية. لديّ مسؤوليات أخرى. يجب أن أتظاهر بأن كل شيء على ما يرام حتى يطمئن من حولنا، أكانوا محاصرين في غزة أو من يحبوننا في الخارج”.

ويقول محمد عبد “جفّت دموعنا حرفيا. الآن أعمل مثل الروبوت: أخرج وأضغط على الزر (الكاميرا) وبعدها لا أعود أرى شيئا، فبعد كل الصدمات والبكاء والحداد لكن تكفي لحظة واحدة أجلس فيها أو أستلقي لكي يمر شريط أحداث اليوم أمام عينَي. نحن متوترون طوال الوقت لأنه بالإضافة إلى كل ذلك، نأكل القليل ونشرب مياها غير صالحة للشرب”.

ويقول يحيى حسونة “جميع الصحافيين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة في غزة، إذا قال لكم شخص ما إنه بخير كونوا متأكدين أنه يكذب. كل ما رأيناه وكل ما صوّرناه سيطبع في ذاكرتنا إلى الأبد لن ننساه أبدا”.

بالنسبة إلى الجميع، فإن البعد عن الأقارب والأحباء أمر لا يحتمل. فعادل الزعنون لا يكف عن التفكير بوالدته وأشقائه الذين لم يتمكنوا من مغادرة مدينة غزة. أما بالنسبة إلى مي ياغي، فكانت “أقسى اللحظات” عندما اضطرت أن تترك ابنها جاد البالغ 11 عاما يرحل بمفرده. وكانت ابنتها الكبرى غادرت قبل اندلاع الحرب بفترة وجيزة للدراسة في بريطانيا حيث ما زالت موجودة.

وتقول إنه على الطريق المؤدية إلى معبر رفح على الحدود المصرية، كان “كل همّي أن أطمئنه بأنني سألحق به قريبا. أخبرته بأنه بطل وسيكون بأمان مع موظفي السفارة وبأن والده وخالته بانتظاره في القاهرة”.

وتضيف“رفض السفر وتركي في البداية، لكنني أقنعته بضرورة ذلك. وعدته بأنني سأكون بخير لكنه لم يصدقني. احتضنني كأنها المرة الأخيرة وطلب مني أن أقسم بأنني سألحق به. ليست لديّ أيّ فكرة اليوم متى سأرى ولديّ. لا أريد إلا شيئا واحدا: أن أحضنهما مجددا بين ذراعيّ”.

5