"سجينة الكلمات".. الطبيعة في مجابهة الواقع المفزع

إيفيلين موريس توجه قصائدها دفاعا عن الكائنات والأرض.
الأحد 2024/02/04
الوقوف في صف الطبيعة (لوحة للفنان مهند عرابي)

ما تزال الكتابة عن الطبيعة تجتذب الشعراء والأدباء، إذ لم يتوقف سحرها عند الرومنسيين، بل تطورت الطبيعة في الأدب لتصبح خطابا مضادا ومقاوما لما تشهده الإنسانية من صراعات وظواهر ومكبلات وغيرها مما يفرضه هذا العصر البارد، وكلها تنعكس على المحيط الأول ألا وهو الطبيعة. انتصارا للطبيعة خصصت الكاتبة إيفيلين موريس كتابا كاملا من نصوص شعرية وأدبية تتجاوز التصنيف المباشر.

تلعب الطبيعة دورا كبيرا في كتاب “سجينة الكلمات” للكاتبة إيفيلين موريس، على الرغم من أن عنوان الكتاب لا يشي بهذا، حيث نجد عالما زاخرا بكلمات الطبيعة ومفرداتها الجميلة والحيوية والتي تبعث على النضارة والبهجة والمحبة والانشراح، وهو ما لا يعكسه عنوان الكتاب الذي جاء دالا على الحزن والتعاسة والوحدة واليأس والضيق.

نعم سنجد نصوصا تعبر عن هذا العالم الكئيب والحزين، ولكن الأغلب الأعم هو التفاؤل والحرية والأمل، رغم رحلة البحث عن الذات، والوقوع في فخ الحيرة والتردد، بين البوح والإفصاح، وبين السكوت والكتمان، ومن هنا سنجد أن الكاتبة لا تستطيع أن تحسمَ أمورا كثيرة وتتركها للزمن.

دفاعا عن الطبيعة

نصوص الكتاب تجمع بين أجواء الطبيعة وأجواء واقع الكاتبة اليومي الذي تحوله إلى حالة وجدانية شديدة الترميز والتكثيف

احتوى الكتاب على 46 نصّا أدبيا أو شعرا منثورا، بالإضافة إلى 43 مقطوعة قصيرة جدا، من التي يُطلق عليها ومضة، أو إبجرامة، والتي تعرَّف في عالم القصة؛ بالقصة القصيرة جدا (ق. ق. ج) ولكننا لسنا في مجال القصّ أو السرد، رغم أن هناك عناصر سردية في بعض النصوص، ولكنها لا ترقى لأن تكون قصة قصيرة، أو قصة قصيرة جدا.

إن الكاتبة تتغنى بالطبيعة في معظم نصوصها، وتذكرُها في عناوينها، مثل: فراشة هائمة، أيا قمري، سحاب السماء، عصفور في خلاء الكون، فراشة الأكوان، الغروب، النجمة الفريدة، رداء الشمس، شاطئ الذكريات، رسالة إلى القمر، زهرة النساء .. وغيرها.

وفي الكثير من الأحيان تتخذ من مفردات الطبيعة تشبيها أو رمزا أو معادلا موضوعيا لحالات وجدانية معينة، مثل تشبيه الذات الكاتبة بالفراشة فتقول (ص 12) “أنا كفراشةٍ هائمة بين الأغصان”، وتضيف صفة (هائمة) للفراشة لتعمِّق المعنى الذي تقصده أو الذي تريد أن تفصح عنه، فهي ليست أيّ فراشة تطير بين الأزهار، ولكنها فراشة هائمة تبحث عن غصنِ وَردٍ دون أشواك، فكأنها أنثى تبحث عن الدفء والحنان والأمان والسكينة والسلام، تبحث عن قلب يحملها داخله بين الأضلاع، عن عقل يأخذها إلى بعيد دون عناء، وتتطلع لربيع وردي يحمل النسمات.

وهكذا نجد تلك الفراشة الهائمة معادلا موضوعيا للذات الكاتبة التوَّاقة إلى الحب والحنان، ولكن مسعاها لم يتحقق إذ سرعان ما تفقد قدرتها وتسقط واقعة بين الأشواك، ولا تستطيع أن تحلق بين الأغصان.

وتنجح الكاتبة في إبراز رحلة الفشل والضياع لهذه الفراشة في رمزيتها شديدة الوضوح والتأثير من خلال نص يحمل الكثير من الدلالات، ومن خلال رمزية الطبيعة المتحركة الحزينة.

وهي تلجأ مرة أخرى إلى هذا الرمز المعبر وهو الفراشة في نص يحمل عنوان “فراشة الأكوان” (ص 32) التي كانت تلهو وتلعب وتحلق في سعادة بالغة وتزهو بألوانها الجميلة وتداعب بجناحيها هواء البستان، وهنا نجد صورة جميلة ودالة، حيث الفراشة هي التي تداعب الهواء بجناحيها، وليس العكس، أي ليس الهواء هو الذي يداعب الفراشة، ويتجاوب معها الهواء فيهدهدها بين الأغصان ويضعها بلطف على غصن بان، فتتناقل بين أوراق الريحان مسرورة برائحته، شاعرة بالأمان، وحتى هنا نرى الطبيعة الجميلة الفاتنة الرقيقة الحالمة التي تحنو على مخلوقاتها وتضمهم في سرور وحب وحنان، ولكن يظهر الإنسان فيخرِّب الطبيعة ويدمر المشاعر الرقيقة، على حين غرة، فتقترب يد الإنسان القاسية وتعصف بالفراشة فتسقط في الحال، ولم يبق منها سوى عنوان مكتوب: هنا ترقد أجمل فراشات البستان.

f

هذا الصراع والدراما غير الإنسانية التي تأتي بفعل الإنسان وجبروته وتحكمه في مخلوقات الله الأخرى، الضعيفة الرقيقة، استطاعت الكاتبة أن تصوره لنا بكلمات بسيطة لكنها دالة ومعبرة عن المأساة التي رسمت خطوطها بخفة ورشاقة، واعتمدت على التصوير وسجع الكلمات من خلال سرد بسيط، ورمز شفيف، ومعادل موضوعي لطيف.

وأحيانا يكون هذا الرمز عصفورة، أو مزهرية تنبض بالورود مختلفة الألوان، وغيرها من رموز الطبيعة الحية، لذا نرى احتفالا أو احتفاء بالألوان في هذه النصوص، وكل نص تقريبا لا يخلو من ذكر الألوان ككلمة عامة، أو ذكر ألوان معينة مثل: الأبيض والأسود والأرجواني والأحمر والأخضر والأزرق .. إلخ، كما نجد في قولها (ص 52): “من يُبكيكِ أيتها العصفورة ذات الألوان؟ الطبيعةُ أم البلابلُ أم وحده الإنسان؟”.

وتترك الإجابة مفتوحة ليجيب القارئ بنفسه، وهذه لعبة ذكية من الكاتبة، أن تترك المجال لمشاركة القارئ أو المتلقي في إنتاج النص أو في وضع نهاية له فلا تشير بأصابع الاتهام إلى شخص أو كائن بعينه. وبالتأكيد معظم القراء إن لم يكن كلهم، ستكون إجابتهم: الإنسان هو الذي يُبكي تلك العصفورة ذات الألوان المبهجة والمفرحة، فليست الطبيعة قاسية على عصافيرها لتبكيها، وليست البلابل أيضا بهذه القسوة، وإنما الإنسان المتهم دائما في مثل هذه الأمور، فكما رأيناه من قبل مع الفراشة، نراه الآن مع العصفورة.

ولعلنا نتساءل هل هناك فرق بين البلبل والعصفور، أو بين البلابل والعصافير، حيث السؤال من يُبكيكِ أيتها العصفورة؟ وتدخل البلابل في دائرة السؤال، لنجد أن هناك فعلا فرقا بين البلبل والعصفور، فالبُلْبُل: طائر صَغير حسن الصوت من فصيلة الجواثم، ويضرب به المثل في حسن الصوت. والجمع: بلابل. أما العصفور، فهو جنسُ طيرٍ من الجواثم مخروطيات المناقير. والأُنثى: عصفورة.

وتظل “الفراشة” هي الكائن الأكثر دورانا في نصوص الشاعرة، حيث تذكرها أيضا في نص بعنوان “رقص الكلمات” (ص 53) في قولها: أنبض.. أشعر.. أبكي.. أفرح كفراشة.. أعشق البستان، أحلق فوق زهوره كي استمتع بجماله الفتان.. الخ”.

هي لا تريد أن تشبّه نفسها “كعصفورة تعلو وتعلو وتسبح في أرجاء الأكوان”، وتنكر أنها شاعرة “تتراقص كلماتُها بنغم يداعب الوجدان” ولكن تثبت أنها فراشة تعشق البستان.

اليومي والموسيقى

Thumbnail

عندما تختلط الأمور على الذات الكاتبة ويتوه الطريق تتساءل: من أين أنا؟ من أيّ مكان؟ وأين أنا من هذا الزمان؟ أين دليلي؟ فقدتْ عيناي الضوء؟ فتشعر بالحزن، ولا تكتفي بالشعور بالحزن، ولكنها تقوم أيضا بتعريفه فتقول (ص 60) “هو هذا الشعور المؤلم المؤذي المقيم داخلنا لا نستطيع أن نغادره سريعا لأنه يستطيع الإقامة داخلنا”، وهنا يتحول النص الأدبي  ذو الملامح الشعرية إلى شبه مقال أدبي، أو تقرير عن الحزن وآلامه، ولكن الكاتبة استطاعت أن تنجو بعد ذلك من تلك التقريرية بلجوئها إلى الصور الشعرية التي أعادت النص إلى شعريته، فتقول عن الحزن: يفتح مدنا من الذكريات الحزينة، يزورُ شواطئ انكساراتِنا التي أغلقناها، يتجوَّل فينا مُلقيا بذور الوجع، فاتحا أدراج مآسينا.. إلخ.

وهذا يؤكد براعة الكاتبة في سرعة التخلص من تقريريتها ومن بعض المباشرة التي لاحظناها في بعض النصوص، والتي لاحظها الشاعر أحمد سويلم فأشار إلى ذلك في مقدمته القصيرة بالكتاب فقال “هذه المضامين قد يشوبها بعض المباشرة، لكنها مع ذلك تتميزُ بالصدق والتعبير المنحوت من قلب الوجدان”.

وإذا كانت إهداءات الكتب والدواوين الشعرية عموما تتصف بالمباشرة والتقريرية، فإننا لم نجد هذا في إهداء الكاتبة، بل نجد هذا الإهداء لا يختلفُ كثيرا عن بقية مقطوعات وقصائد الديوان المنثورة، فهي في أجزاء من هذا الإهداء تُهدي كتابها للبحر مثلا فتقول (ص 3) “إليك أيها البحر العميق الثائر الضارب شواطئ النفوس فتعيد ترتيب ما بداخلها”.

وهي إلى جانب هذا تُهدي كتابها أيضا إلى الطبيعة عموما: أيتها الطبيعة الساحرة الثابتة والمتغيرة أحيانا. وتُهديه أيضا إلى الطير في السماء والنجوم المعلقة على السحاب.

الكاتبة تترك المجال لمشاركة القارئ أو المتلقي في إنتاج النص أو في وضع نهاية له أو استنتاجها فلا تتهم أحدا بما يحدث

ثم بعد ذلك تعود من أجواء الطبيعة إلى واقعها اليومي لتتذكر زوجَها وأبناءَها وأصدقاءَها وقراءَها، لتُهديهم هذا الكتاب أيضا.

وهي بذلك ترسم حدود نصوصها التي ستجمع بين أجواء الطبيعة كما لاحظناها سابقا، وإلى أجواء واقعها اليومي الذي سنراه في نصوص أخرى، والذي تحوّله إلى حالة وجدانية شديدة الترميز والتكثيف، لتتضح لنا بجلاء أجواء الرومانسية التي تسيطر على معظم نصوص “سجينة الكلمات” حيث قالت الكاتبة كل ما تود قوله عبر 46 نصّا متوسطة الطول، و43 نصّا شديدة القصر، فما بالنا لو كانت الكاتبة حرة الكلمات، وليست سجينة الكلمات، ولكنه الشعور بالقهر والظلم والكبت وعدم القدرة على التحليق والطيران، وكما تقول في نصها القصير جدا ص (94) “فليست تلك اللمعة إلا دمعة، أوقفتُها قهرا لكي لا تحفر طريقَها فوق خدي”، هو الذي يحد من قدرات الكاتبة على الشعور بالحرية الإنسانية المطلقة التي تفتقدها الذات الكاتبة في معظم نصوصها في “سجينة الكلمات”.

وإذا كنا قد لاحظنا أن كل نصوص الكتاب تنتمي إلى الشعر المنثور، فإنني قد لاحظتُ نصين جاءا من شعر التفعيلة، وهما: “الحنين للمساء” (ص 28) الذي جاء من تفعيلة بحر المتقارب  (فعولن فعولن)، ومطلعه “عشقتُ مساء يحنّ إليك”، ونص “الغروب” (ص 40) الذي جاء من تفعيلة بحر الخبب (فعلن فعلن) ومطلعه “يحمل أحزانا ودموعا ونواحا وحنينا مكتوما” مع كسور بسيطة جدا، من السهل جدا تعديلها. فضلا عن بعض السطور التي جاءت موزونة مع نفسها خارج سياق النص بعامة مثل قولها في نص “يا حبيبا” (فاعلاتن): “هل ستبقى أم ستمضي لست أدري؟” وجاء هذا السطر – مثل عنوان النص – من تفعيلة بحر الرمل (فاعلاتن).

إذن الحس الموسيقي موجود لدى الكاتبة غير أنها لم تفعّله، وأراني أتفق مع رأي ابن رشيق القيرواني القائل بأن: “اللفظ إذا كان منثورا تبدَّد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع”.

ولا نعدم وجود الموسيقى بقوة في هذا الكتاب، ونصوصٍ تحمل عنوان الموسيقى مثل نص “الموسيقى والحياة” وهناك الشدو “تشدو بترانيم العشق” وهناك: أعذب الألحان، وهناك الموسيقى فن الألحان وهي بالأنغام طليقة، “وهذه هي الموسيقى وسيط مشع بين العقل والمادة، فهي تقترن بهما” وكما نرى في هذه الفقرة الأخيرة، فقد تحول النص إلى التقريرية مرة أخرى.

وإلى جانب الموسيقى سنجد أسماء أساطين الموسيقى والغناء في العالم العربي من أمثال: فيروز ونجاة وعبدالحليم وعبدالوهاب، وهناك “الله محبة” التي تحيلنا إلى أغنية أم كلثوم “ألف ليلة وليلة” (كلمات مرسي جميل عزيز وألحان بليغ حمدي 1969) ما يؤكد انفتاح نص إيفلين موريس على الفنون الجميلة بعامة، لتحقق المزيد من رومانسية نصوصها وجمالها في مجابهة القبح والرداءة والقهر والحرمان والحيرة والتردد والتشظِّي الذي نعيشه حاليا، لذا فإنها تلجأ في معظم نصوصها إلى الطبيعة في محاولة للانخلاع من هذا الواقع القبيح.

10