رعاية البرامج تحول القنوات الفضائية الجزائرية إلى معارض للسلع

لجأت القنوات الفضائية الجزائرية إلى فتح أستوديوهاتها أمام المعلنين لتتحول إلى مواجهة الأزمة الخانقة وضعف الموارد المالية، ما أفضى إلى ظهور محتويات إعلامية تخضع لمزاج الممول أو الراعي أكثر مما تخضع للرسالة التي يراد إيصالها إلى المتلقي.
الجزائر - تحولت شاشات القنوات الفضائية المحلية في الجزائر إلى معارض للبضائع والسلع الاستهلاكية بدعوى الرعاية، الأمر الذي خلق صورا مشوهة لتسويق إعلاني قسري، أفرغ تلك البرامج من محتواها الإعلامي وحولها إلى حصص للدعاية والترويج الممل، الأمر الذي دفع الجمهور إلى الهروب نحو وجهات أخرى. ووضعت الرعاية الإعلانية مصداقية القنوات التلفزيونية المحلية على المحك، بما أنها صارت تلهث خلف العائدات أكثر من سعيها إلى تبليغ الرسالة الإعلامية.
وأمام أزمة خانقة تعصف بالإعلام المرئي الجزائري وضعف الموارد المالية، سواء الاقتصادية أو الحكومية، باتت المعادلة تكتفي باشتراط إيجاد ممول أو راع لأي برنامج، على أن يقوم المالك ببثه مقابل الحصول على نصيب من العائد لتمويل حساب المؤسسة، وهو ما أفضى إلى ظهور محتويات إعلامية تخضع لمزاج الممول أو الراعي أكثر مما تخضع للرسالة التي يراد إيصالها إلى المتلقي.
وباتت أستوديوهات البرامج تظهر للجمهور في شكل مشوه، مع تحولها إلى صالات لعرض مختلف السلع والمنتوجات التي يراد تسويقها للمستهلك الجزائري، خاصة في ظل قواعد مهنية وتشريعية ترسم الحدود بين المال والإعلام، وتفرض حالة من الاحترام للذوق العام. وبذلك يسير الإعلام المرئي الجزائري إلى تقديم المزيد من التنازلات لصالح لوبيات المال والأعمال، على حساب الرسالة والمحتوى الإعلامي الذي ينتظره الجمهور من الفضائيات، كأن يأمل منها أن تستقطب الجمهور المحلي وتعيده إلى البيت بعد عقود من التيه بين مختلف المحطات العربية والغربية.
ورغم دخول قانون الصحافة بمختلف اختصاصاتها حيز التنفيذ خلال الأسابيع الأخيرة، إلا أن المسألة تسير إلى المزيد من الانفلات، خاصة في المناسبات والتظاهرات الكبرى التي تستقطب نسب مشاهدة عالية، وبدل البحث عن تعزيز مكانة محترمة لدى الجمهور مما سيحفز المعلنين والرعاة على تقديم عروضهم، يجري الاهتمام بشكل عكسي وهو البحث عن تلك المصادر قبل تقديم المحتوى التنافسي للمتابعين.
◙ الإعلام المرئي الجزائري يتجه نحو تقديم المزيد من التنازلات لصالح لوبيات المال والأعمال، على حساب الرسالة والمحتوى
وجاءت منافسات كأس أمم أفريقيا الجارية في كوت ديفوار لتظهر حالة من الفوضى المنفرة للمشاهد، من فرط السلع والمنتوجات المعروضة في مختلف الأستوديوهات التلفزيونية، إلى درجة أن بعضها لم يجد مكانا له، الأمر الذي يكاد يحولها إلى أسواق مفتوحة. ولم يعد الأمر يتعلق بالقنوات الفضائية الخاصة، التي تعاني من ضعف الموارد المالية وتفتقر إلى إستراتيجية تشييد مؤسسات قائمة وثابتة، بل وصل إلى تلفزيونات حكومية استغلت فرصة العرس الأفريقي لتفتح أبوابها للرعاة الخواص، بدعوى توفير مصادر تمويل جديدة، تضاف إلى التمويل الثابت من طرف الحكومة.
ويرى فاعلون في المشهد الإعلامي الجزائري أن المؤسسات الإعلامية المحلية مازالت قاصرة وتنتظر الدعم المالي رغم مرور عقود كاملة على ظهور بعضها، ويستدلون على ذلك بمؤسستي “الخبر” و”الوطن” اللتين تأسستا في مطلع تسعينات القرن الماضي في إطار سياسة الانفتاح والتعددية، ورغم هيمنتهما على سوق الإعلان لسنوات طويلة إلا أنهما وجدتا نفسيهما قاب قوسين أو أدنى من الإغلاق خلال الأشهر الماضية، مما حدا بهما إلى الاستنجاد بالسلطة للبقاء على قيد الحياة مقابل تقديم تنازلات كلية في خطيهما التحريرييْن.
ولا يزال الإعلام المرئي الجزائري رهين حالة من الهشاشة المالية، انعكست على مستواه الفني والتقني، وعلى المحتوى الهزيل، خاصة في ظل هيمنة السلطة على القطاع في السنوات الأخيرة، ولم تسمح له تجربة عقد من الزمن من تقديم وتسويق صورة تليق بسمعة البلاد، حيث بقي القائمون عليه يلهثون وراء مصادر تمويل حتى ولو كان ذلك على حساب الرسالة والصورة المنشودة.
وكان وزير الاتصال محمد لعقاب قد أقر أمام نواب البرلمان، خلال عرض قانون الإعلام الجديد، بأن هناك “اختلالا مسجلا في التوزيع العادل للإعلان الحكومي، وأن ضعف النسيج الاقتصادي في البلاد أثر في تحقيق العائدات المرجوة للمؤسسات الإعلامية من شتى عمليات التمويل”.
وبعيدا عن العلاقة الطبيعية والتنظيمية بين قطاع المال ومجال الإعلام، فإن الذي يجري في بعض القنوات الجزائرية أساء إلى الطرفين معا، فإذا كان من حق الأول التسويق لنفسه، فإنه من الأجدر بالثاني أداء دوره وفق ما تقتضيه قواعد اللعبة، فهناك الإعلان والرعاية والتمويل، لكن ليس إلى درجة تحويل الشاشات إلى معارض لمختلف السلع والمنتوجات.
وفي انتظار تثبيت السلطات الرقابية التي أوجدها القانون الجديد، فإن الدعوات المتكررة من قبل السلطات لاحترام الرسالة المنوطة بالمؤسسات الإعلامية لم تتوقف، من أجل ضبط العلاقة المذكورة، خاصة بعد أن تحولت بعض القنوات إلى وسائل دعاية مفتوحة، أو حتى إنجاز برامج تحت الطلب، لكن الأمر الواقع هو لهاث خلف المال من قبل هذا، واستغلال مفرط للحاجة من قبل ذاك، حتى ولو أفضى الأمر إلى “بقالات” بدل بلاتوهات.
◙ الإعلام المرئي الجزائري لا يزال رهين حالة من الهشاشة المالية انعكست على مستواه الفني والتقني وعلى المحتوى الهزيل
ويقول متابعون إن تراجع النشاط الاقتصادي في البلاد، خاصة خلال السنوات الأخيرة، أثر بشكل كبير على وضع المؤسسات الإعلامية خاصة منها الناشطة في المجال المرئي، ولذلك لا تتوانى في البحث عن عائدات لتغطية أعبائها حتى ولو كان ذلك على حساب رسالتها الإعلامية، وهو ما تحول إلى نوع من الاستغلال من طرف بعض الممولين والرعاة إلى درجة خرق حق الجمهور في الإعلام وعدم احترام الذوق العام.
وما يعيبه هؤلاء على السلطة هو عدم توفيرها حماية للإعلام المحلي من سطوة المال، وأيضا عدم توفير الحد الأدنى من الإمكانيات لضمان المهنية والاحترافية داخل وسائل الإعلام، فضلا عن عدم إيجاد آليات لتطهير المشهد مما وصفوه بـ”المقاولين” و”المقاولات” الإعلامية.
وشددت الحكومة قبضتها على المصدر الأساسي لتمويل المؤسسات الإعلامية عبر الوكالة الوطنية للإشهار، ما يرهن مصير الحريات الإعلامية في البلاد، ويضعها جميعا تحت السوط الحكومي، الذي استطاع على مدار العقود الثلاثة الأخيرة ترويض المنصات الصحفية والأصوات المتمردة والناقدة بسلاح الإعلان.