نزهة على درّاجة

منذ أكثر من ثلاثين سنة وكلّما شعرت بوطأة الغربة أردد مع نفسي "غريبا مر يا عيني وما سلم"، وهو بيت شعري مقتطع من قصيدة للشاعر العراقي شاذل طاقة الذي عاش بين سنتي 1929 و1974 وكان دبلوماسيا أيضا.
كنت ولا أزال أرى شبح ذلك الغريب في كل مهاجر يشبهني كما لو أنه نسخة مني بالرغم من وجود اختلافات بيننا هي جزء من وصفة حياة تبحث عن تجلياتها في طريقة تعامل الإنسان مع بيئته الجديدة. وهنا أتذكر ما قاله امرؤ القيس "أجارتنا إنا غريبان ها هنا/ وكل غريب للغريب نسيب".
ولم أكن في حاجة إلى تعذيب نفسي بالإنصات إلى العراقي حسين نعمة وهو يغني "غريبة الروح/ لا طيفك يمر بيها/ ولا ديرة تلفيها/ غدت ويميل هجرانك ترد وتروح/ وعذبها الجفا وتاهت حمامة دوح"، وهو المعنى نفسه الذي أرادت الوصول إليه نجاة الصغيرة حين غنت "حبايبنا ذبنا حبايبنا/ ولا قلنا لحد إننا ذبنا".
وقد يضعف الغريب إذا ما سمح للحنين أن يستولي عليه، وفي ذلك يختلف الميزان بين شخص وآخر. فسعدي يوسف قد اتخذ موقفا متشددا وصارما من الحنين حين قال "أيهذا الحنين يا عدوي"، أما أحمد شوقي فقد كان رومانسيا معذبا وهو يقول "كأنّ القلب بعدهمُ غريب/ إذا عادته ذكرى الأهل ذابا".
وإذا ما اجتهدنا في البحث عن تعريف للغربة، فسنرى أن هناك تباينا في وجهات النظر. فامرؤ القيس على سبيل المثال لا يربطها بالجغرافيا حين يقول “وليس غريبا من تنأت دياره/ ولكن مَن وارى التراب غريبُ".
وهناك حكمة شهيرة تستخف بالعامل الجغرافي بمرارة "الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة". ولكن الغربة في كل أحوالها تظل ثقيلة. قد ينسجم المرء مع عناصر بيئته الجديدة، وهو أمر ضروري من أجل أن يكون للحياة معنى، ولكن نداء خفيا سيعصف به في لحظة ما ليذكره بأن هناك خطاً يجب استدراكه.
وفي ذلك تقول فيروز "من يوم تغربنا وقلبي عم بيلم جراح/ يا ريتا بتخلص هالغربة ت قلبي يرتاح". وهكذا يكون زمن الراحة هو النقيض لزمن الغربة.
يحلم الغريب بساعة من الراحة مقابل سنوات من الغربة "ارتاح يا قلبي ليلة/ بعد الغربة الطويلة"، كما تقول وردة. وكم كان عبدالحليم حافظ مرحا وظريفا وهو يقود مع شادية الدرّاجة الهوائية ويغنيان "حاجة غريبة/ الدنيا بقى لها طعم جديد/ حاجة غريبة/ أنا حاسس أن دا يوم عيد". ليت الغربة تكون نزهة على درّاجة هوائية يعود بعدها المرء إلى بيته.