تونس مرآة للمنطقة في حرب غزة

تقارب المواقف الرسمية والشعبية لم يترك مجالا لأي من الفاعلين السياسيين كي يزايد على سياسات السلطة وذلك بالخصوص اعتبارا لمواقف الرئيس قيس سعيد الداعية "لتحرير فلسطين كل فلسطين" كحل للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.
الجمعة 2024/01/05
بعد الحرب على غزة ليس كما قبلها

سلّط استطلاع للرأي أنجزته مؤسسة “البارومتر العربي” الضوء بشكل فريد من نوعه على التحولات التي شهدها الرأي العام التونسي منذ بداية الحرب في غزة.

يقول الباحثون الذين أنجزوا الاستطلاع إن التحولات التي لاحظوها في مواقف الرأي العام في تونس قبل وبعد الحرب “كانت دراماتيكية”، إذ “نادرا ما تحدث تغييرات بهذا الحجم في ظرف بضعة أسابيع” حسب قولهم.

امتدت الفترة التي أجري خلالها الاستطلاع إلى ثلاثة أسابيع قبل الحرب وفترة مماثلة بعد اندلاعها.

◙ من غير الواقعي الاعتقاد بأن حرب غزة لن تكون لها على المدى البعيد تداعيات على مواقف التونسيين من الغرب وعلى العلاقات بين تونس والدول الغربية

يرى أصحاب الاستطلاع أن الآراء التي أعرب عنها التونسيون كانت مرآة لمواقف بقية الرأي العام العربي. هذا صحيح إلى حد كبير فالتعاطف العميق الذي أبداه الجمهور التونسي مع الفلسطينيين في مأساتهم لم يختلف كثيرا عن المواقف التي أظهرتها استطلاعات الرأي في المنطقة العربية بعد بدء الحرب. ولكن ردود الفعل في تونس تأثرت أيضا في بعض جوانبها بالسياقات السياسية والاجتماعية للبلاد.

أظهرت نتائج الاستطلاع التي نشرت الشهر الماضي تحولا في مواقف التونسيين على صعيدين أساسيين. الأول يتعلق بتطور الصورة التي لديهم عن الدول الأخرى تبعا لمدى مساندتها لإسرائيل أو “حيادها” في النزاع.

في هذا الإطار تدهورت صورة الدولتين الغربيتين اللتين شملهما الاستطلاع: الولايات المتحدة وفرنسا.

ومن بداية الفترة التي شملها الاستطلاع إلى نهايتها انخفضت نسبة التونسيين الذين كان لهم انطباع إيجابي عن الولايات المتحدة، وذلك بسرعة مذهلة. نزلت هذه النسبة من 40 إلى 10 في المئة في ظرف أسابيع قليلة. وانخفضت هذه النسبة في ما يتعلق بفرنسا من 52 إلى 38 في المئة.

في نفس الوقت زادت نسبة المواقف الإيجابية تجاه الصين بخمس نقاط مئوية فيما تراجعت هذه النسبة في ما يخص روسيا بثلاث نقاط مئوية.

ولم يكن تدهور الصورة الأميركية بعد حرب غزة في الواقع حكرا على تونس، إذ تدل عديد استطلاعات الرأي الأخرى على أن هذه حالة تشترك فيها عديد البلدان العربية.

أما التحول الثاني الذي حصل في مواقف التونسيين فقد تمثل في المنحى الراديكالي الذي أخذته هذه المواقف تجاه النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.

تقول نتائج استطلاع “البارومتر العربي” إن 66 في المئة من التونسيين كانوا يساندون “حل الدولتين” قبل الحرب، وانخفضت هذه النسبة إلى 50 في المئة بعد نشوب النزاع.

خلال نفس الفترة أيضا انخفضت نسبة التونسيين الذين يساندون بعض أشكال حل الدولة الواحدة، مثل إقامة كونفدرالية فلسطينية – إسرائيلية مثلا، من 18 إلى 11 في المئة. أما الخيارات “الأخرى” التي تعني في معظم الحالات – حسب أصحاب الاستطلاع – المقاومة المسلحة، فقد تطورت نسبة مساندتها من 6 إلى 36 في المئة.

ورافق هذا التطور انخفاض كبير في نسبة التونسيين الذين يوافقون على التطبيع مع إسرائيل، من 12 إلى 1 في المئة.

◙ تشكيك موقف النخبة التونسية في مصداقية كلام الغرب عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في ضوء عدم تحركه لوقف الحرب في غزة من الأرجح أن يستمر ولو توقفت الحرب

والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن جو النقاشات السياسية والبرامج التلفزيونية والرسائل المتبادلة على مواقع التواصل الاجتماعي في تونس كانت توحي بنفس هذا التوجه، في الوقت الذي كان يعكس فيه تقاربا كبيرا بين مواقف السلطة وأغلبية الرأي العام.

في هذا السياق، ذكر استطلاع للرأي أنجزته مؤسسة “إمرود كونسلتينغ” التونسية في نهاية ديسمبر 2023 أن نسبة 84 في المئة من التونسيين كانوا يساندون الموقف الرسمي بخصوص الحرب في غزة.

ذلك يعني غياب أي شرخ بين مواقف النظام والجمهور الواسع، بعكس ما كان عليه الوضع في بلدان عربية أخرى، مثلما أشارت إليه استطلاعات الرأي والتحاليل في الصحافة العالمية.

ولم يترك تقارب المواقف الرسمية والشعبية مجالا لأي من الفاعلين السياسيين في تونس كي يزايد على سياسات السلطة، وذلك بالخصوص اعتبارا لمواقف الرئيس قيس سعيد الداعية “لتحرير فلسطين، كل فلسطين” كحل للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.

وقد يساهم ذلك حسب المراقبين في تعزيز موقع قيس سعيد على صعيد الرأي العام قبل سنة من الانتخابات الرئاسية المقبلة.

ليست هناك أي مفاجأة بخصوص مواقف التونسيين من الولايات المتحدة سوى سرعة انزلاقها. فالرأي العام التونسي كان دوما تحدوه قناعة بانحياز واشنطن شبه التام للمواقف الإسرائيلية. وأكدت الحرب في غزة هذه القناعة. وانعكس ذلك على صورة الرئيس جو بايدن حيث تقلصت نسبة التونسيين الذين يحملون انطباعا إيجابيا عن الرئيس الأميركي من 29 في المئة في أول الاستطلاع إلى 6 في المئة في نهايته، في حين تحسنت في المقابل صورة رؤساء إيران وروسيا والصين.

وقد أكدت نتائج استطلاع مؤسسة “إمرود” الرفض شبه المطلق لدى الرأي العام التونسي للسياسات الأميركية والفرنسية في الحرب. وذكر الاستطلاع أن نسبة مساندة التونسيين للموقف الأميركي في حرب غزة لم تتجاوز 1 في المئة ولم تتجاوز نسبة مساندتهم للموقف الفرنسي في النزاع 2 في المئة.

ليس من المألوف أن يكون للرأي العام التونسي موقف بهذه السلبية من سياسات باريس في المنطقة. لكن الحرب في غزة شكلت منعطفا غير مسبوق بسبب ما شاهده التونسيون على شاشات التلفزيون الفرنسي وصحفه من مواقف رأوها منحازة تماما للمواقف الإسرائيلية في النزاع. وقد دفعهم ذلك كي يهجروا القنوات التلفزيونية الفرنسية ويلازموا القنوات العربية في متابعتهم لتطورات الحرب.

وفاقمت المواقف من فرنسا بالنسبة إلى المهاجرين التونسيين والمغاربيين تضييقات باريس على مظاهر التضامن مع الفلسطينيين حتى وإن كانت بدوافع إنسانية. واستغرب الكثير من المهاجرين تشديد فرنسا لإجراءاتها الأمنية خاصة بالمقارنة مع الليونة النسبية التي أبدتها لندن وواشنطن وبعض العواصم الغربية الأخرى.

◙ التعاطف العميق الذي أبداه الجمهور التونسي مع الفلسطينيين في مأساتهم لم يختلف كثيرا عن المواقف التي أظهرتها استطلاعات الرأي في المنطقة العربية بعد بدء الحرب

اندلعت الحرب في غزة في وقت تزايدت فيه التوترات بين السلطات في باريس والأقليات العربية والمسلمة (سواء منها الحاملة لجنسية فرنسا أو المقيمة فيها) في سياق الضغوطات المتزايدة على المهاجرين بدفع من أقصى اليمين. وقد تجلى ذلك بالخصوص في مصادقة البرلمان الفرنسي على قانون جديد للهجرة يدعمه “التجمع الوطني” اليميني المتطرف. وقد سحب هذا القانون الكثير من الامتيازات من المهاجرين وسرّع في إجراءات الطرد “للأشخاص غير المرغوب فيهم”.

وفي خضم التوترات المتراكمة وصف وزير الداخلية الفرنسي المناخ السياسي والأمني السائد في بلاده بـ“الجو الجهادي”.

كل ذلك من شأنه أن يضفي مسحة من عدم الارتياح على التونسيين وأهل المغرب العربي في تعاملهم مع فرنسا.

وفي نهاية التحليل، من غير الواقعي الاعتقاد بأن حرب غزة لن تكون لها على المدى البعيد تداعيات على مواقف التونسيين من الغرب وعلى العلاقات بين تونس والدول الغربية.

في هذا الإطار، بدأت التداعيات الأولى من خلال تشكيك موقف النخبة التونسية في مصداقية كلام الغرب عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في ضوء عدم تحركه لوقف الحرب في غزة.

وهذا التشكيك من الأرجح أن يستمر ولو توقفت الحرب، مما سيشكل عاملا إضافيا نحو توسيع الهوة بين تونس والغرب. وقد يمتد هذا التوجه إلى الرأي العام في بقية البلدان العربية وبذلك يصح إلى حد ما الرأي القائل بأن تونس مرآة للمنطقة.

9