بيني وبينك خطوتان

"آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق" قول مأثور يُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب. ثلاث شدائد يواجهها الإنسان هي بمثابة اختبار لقدرته على التحمل وقوة إرادته.

والوحشة في اللغة هي الخلوة والخوف منها في الوقت نفسه. والوحشية هي نقيض التحضر. في بداية القرن العشرين ظهرت في باريس مدرسة فنية سُميت بـ"الوحشية"، كان رائدها هنري ماتيس قد لجأ إلى التبسيط في الفن. والوحشة في وجه من معانيها هي الاشتياق في مواجهة الفراق. "لك وحشة" كما يُقال بعد انقطاع. وهو ما عناه محرم فؤاد حين غنى "يا وحشني رد عليا/ أزيك سلامات/ أنا أحبك قد عينيه/ والعمر بحبك فات/ سلامات".

كانت تلك الأغنية من ألحان فريد الأطرش الذي غنى في سن متأخرة "يا حبايبي يا غاليين/ وحشيني يا غاليين/ لو أغمض وأفتح/ وألاقيكم جايين" وكان الأطرش قد غنى عام 1949 من كلمات مأمون الشناوي "يا وحشني ومشتاق لجمالك/ يا فايتني وسايبني خيالك" وفي الوحشة ما فيها من لوعة وحسرة وشعور عميق بالفقدان وهو ما لا يقوى عليه الكثيرون إلا إذا صرخوا بصوت عال كما فعلت وردة “وحشتوني/ وحشتو عيوني/ وفكرتوني باللي كان/ ورجعتو يا حبايبي لإيام فات عليها زمان”. أما حين يقول المصري “صاحبك دا بني آدم وحش” فإنه يشير إلى إنسان غير جيد والطعام الوحش هو الطعام الفاسد أو غير المطبوخ جيدا. والمكان الموحش هو المكان المهجور.

ولعبدالحليم حافظ أغنية مهجورة يقول فيها “يا وحشني وبعدك حيرني/ كان إيه خلاك تبعد عني” وبعد أن كان أحمد رامي ومحمد عبدالوهاب قد التقيا عام 1960 في أغنية "هان الود" فإنهما عادا إلى اللقاء ثانية بعد خمس سنوات في أغنية “أنت الحب” التي تقول أم كلثوم فيها “واحشني وأنت قصاد عيني/ وشغلني وأنت بعيد عني” وهو ما يعني أن الشعور بالوحشة أو الاشتياق لا يفارق المحبين بغض النظر عن قربهم أو بعدهم.

وبالمعنى نفسه تقول “كنت بشتاق لك وأنا وأنت هنا/ بيني وبينك خطوتين". وهي الحالة التي عبرت عنها سعاد محمد بقولها "وحشتني/ عدد نجوم السما/ عدد كلام الهوى/ وحشتني في كل يوم إنما وحشتني/ أكثر وأكثر/ واحنا سوا/ تعال نخلي الحلم حقيقة/ تعال نعوض كل دقيقة" ولأن سعاد محمد بدأت الغناء في دمشق وحلب فإن البعض يعتقد أنها سورية والصحيح أنها ولدت في بيروت من أب مصري. لم تعش صاحبة "فتح الهوى الشباك" في وحشة لأنها تزوجت ثلاث مرات وأنجبت عشرة أبناء وبنات.