تدهور صحة وزير الدفاع الجزائري الأسبق يهدد تاريخ مرحلة هامة بالضياع

توارى الجنرال الأسبق خالد نزار عن الأنظار والأضواء الإعلامية تثير تساؤلات في الشارع الجزائري.
الجمعة 2023/12/22
خزينة مليئة بالأسرار

الجزائر - يتواجد وزير الدفاع الجزائري الأسبق الجنرال خالد نزار في وضع صحي حرج جدا، ووسط صمت مطبق، إذ تقترب صفحة مهمة من تاريخ الجزائر من التلاشي، فالمذكرات الشخصية التي كتبها الرجل لم تسلط الضوء على كل التفاصيل، لتبقى الكثير من الاستفهامات عالقة، نظرا إلى ارتباط صاحبها بمراحل مفصلية في تاريخ البلاد، بداية من الحرب الأهلية إلى غاية الحراك الشعبي والانقلاب الأبيض داخل المؤسسة العسكرية، برحيل أحمد قايد صالح، وقدوم سعيد شنقريحة.

ويلازم الجنرال الجزائري المثير للجدل فراش المرض في بيته العائلي بمدينة باتنة في شرق البلاد منذ عدة أشهر، وسط تكتم شديد سواء من طرف محيطه وعائلته أو من طرف السلطة التي ظل مرتبطا بها رغم تقاعده من الخدمة بداية تسعينات القرن الماضي.

ومنذ استسلامه لفراش المرض، توارى الرجل عن الأنظار والأضواء الإعلامية وبذلك اختفت مشاكساته واستفزازاته، الأمر الذي أحاط مساره المهني بجدل محتدم، خاصة بعد أن أخذت المسألة طابعا دوليا، حيث كانت التهم الصادرة عن القضاء السويسري والمتمثلة في “ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” آخر سطر في سيرته الذاتية.

الجنرال خالد نزار، كان قاب قوسين أو أدنى، من أن يزج به في السجن العام 2019 بإيعاز من الرجل القوي أحمد قايد صالح

وبين العودة من منفاه الاختياري بإسبانيا العام 2020، على وقع مقطع التحية العسكرية وعلى متن طائرة رئاسية إلى أرض الوطن، ثم إفراغ الحكم القضائي الغيابي الذي صدر في حقه العام 2019، دون أن يقضي ساعة واحدة قيد التوقيف، وبين التزام البيت في آخر المطاف، لأن القضاء الدولي يلاحقه، والسلطة لا تريد الدخول في مناكفات هامشية لأجله، تمتزج مشاعر خاصة لا تجتمع إلا عند هذا النوع من الشخصيات.

ويوصف الجنرال خالد نزار، بقائد “صقور” المؤسسة العسكرية، وهي النخبة العسكرية الراديكالية التي قادت البلاد خلال العشرية الدموية (1990 – 2000)، وظلت تمجد سياسة الاجتثاث الأمني للإسلاميين، وترفض أيّ تقارب معهم، إلى أن قلب الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة الموازين وذهب إلى مصالحة وطنية أوقفت حمام الدم بين الجزائريين.

وارتبط الرجل منذ مطلع تسعينات القرن الماضي بمراحل مفصلية في تاريخ الجزائر، ولذلك فإن العزلة التي يعيشها في آخر أيامه تهدد الذاكرة الجزائرية بضياع جزء من تفاصيل مرحلة هامة تمتد من أيام تغلغل ضباط فرنسا في صفوف الثورة في سنواتها الأخيرة، وتمكنهم تدريجيا من مفاصل الدولة تحت رعاية وتوجيه الأيديولوجية الاستعمارية الفرنسية، ومنهم الجنرال خالد نزار، وقائد أركان الجيش السابق محمد العماري، والعقيد محمد بن شريف.. وغيرهم.

وقدم خالد نزار في مذكراته الشخصية الكثير من التفاصيل بداية من المرحلة المذكورة، إلى غاية التعددية الحزبية وصعود موجة الإسلاميين ووقف المسار الانتخابي والحرب على الإرهاب، لكنها ظلت أفكارا انطباعية قريبة إلى المزاج الذي يبرر توجها معينا، بينما يفتقد للموضوعية والحقيقة وإزاحة الستار عن الكثير من الحقائق والألغاز التي دخلت بدورها عزلة كما يعيش صاحبها عزلة في فراش المرض، قبل أن تندثر كما اندثر أمثال خالد نزار، الذين اختاروا أخذ أسرارهم وحقائقهم معهم إلى القبر.

ولازالت في الجزائر الكثير من النخب السياسية والعسكرية تفضل أخذ أسرارها معها إلى دار الخلود، وحتى ما دُوّن هنا وهناك من طرف بعض الشخصيات في شكل مذكرات أو إسهامات شخصية لا يشفي غليل الأجيال الصاعدة التي تريد معرفة الحقائق والاطلاع على الألغاز المزمنة، وحتى الرئيس الديمقراطي الشاذلي بن جديد، لم تكتمل مذكراته، فرحل هو ورحل كاتبها الإعلامي عبدالعزيز بوباكير، وهو السيناريو المطروح مع وزير الدفاع السابق، العارف بخبايا السلطة طيلة عقود الاستقلال، خاصة الثلاثة الأخيرة منها، ولاسيما السنوات الأخيرة التي ارتبطت باحتجاجات سياسية شعبية غير مسبوقة في البلاد، والتحولات المتسارعة خلالها، بداية من تفرد قائد الجيش السابق الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، ثم قدوم خلفه سعيد شنقريحة.

وكان خالد نزار، قاب قوسين أو أدنى، من أن يزج به في السجن العام 2019 بإيعاز من الرجل القوي حينها أحمد قايد صالح، لكنه استطاع الفرار بجلده إلى إسبانيا، لأنه كان يدرك جيدا لعبة التوازنات وموازين القوى داخل السلطة والمؤسسة العسكرية تحديدا، وكان يستشعر أن تغوّل خصمه سيرهن مصيره، ولذلك أفلت من المصيدة، بعد انكشاف مسعى سعيد بوتفليقة لاحتواء احتجاجات الشارع بفتح قنوات اتصال وتشاور مع شخصيات مختلفة، قبل أن تتحول المسألة إلى تهمة قضائية مفادها “التآمر على أمن الدولة والإضرار بالمؤسسة العسكرية”، وتصدر أحكام حضورية وأخرى غيابية ضد أصحابها ومنهم 20 عاما نافذا لخالد نزار وابنه لطفي وصديقه فريد حمدين.

الجنرال خالد نزار يوصف بقائد “صقور” المؤسسة العسكرية، وهي النخبة العسكرية الراديكالية التي قادت البلاد خلال العشرية الدموية، وظلت تمجد سياسة الاجتثاث الأمني للإسلاميين

وفي السنوات الأخيرة، اشتدت الصراعات والخلافات في هرم المؤسسة العسكرية، وسلم الرجل المحسوب على ما يعرف بـ”التيار الاستئصالي”، من أسوأ السيناريوهات، خاصة وأن الجناح “النوفمبري”، فتح أبواب السجن أمام العشرات من الجنرالات والعقداء (العقيد) في عملية تصفية وتطهير لم تعرف المؤسسة مثيلا لها منذ الاستقلال، ومع ذلك التزم خالد نزار الصمت تجاه ما يحدث لبعض رفاقه من الجنرالات والضباط السامين، الذين قاسموه مشروع “استئصال الإسلاميين” خلال العشرية الدموية.

وفي 2019، ومن منفاه بإسبانيا، وجه نداء لأفراد الجيش من أجل أن يتمرّدوا على القائد أحمد قايد صالح، وهي تهمة كانت ستنهيه، لولا تسارع الأحداث وتغير التوازنات من النقيض إلى النقيض، فتوفى القائد المذكور، وعاد نزار إلى بلاده، ودارت الدائرة على كل ما هو محسوب عليه، وحينها ساد الاعتقاد أن الثنائي خالد نزار ومحمد مدين (توفيق)، المتقاعدين من العمل والمتغلغلين داخل المؤسسة، هما من مهدا الطريق للجنرال سعيد شنقريحة، وأن الجناح البائد قد عاد، لكن لعبة توالد الأجنحة في النظام الجزائر تمهد لإزاحة “الاستئصاليين”، والدفع بشنقريحة الى الواجهة.

وفي كل هذا مسيرة رجل يعيش في عزلة المرض، ومعه تنعزل الكثير من الحقائق والأسرار قبل أن ترافقه للأبد إلى القبر، وتبقى الجزائر والأجيال الصاعدة تتلهف لمعرفة ماذا حدث منذ “ضباط فرنسا”، إلى رحيل أحمد قايد صالح، وقدوم سعيد شنقريحة، ومرورا بالتعددية الحزبية وصعود الإسلاميين ووقف المسار الانتخابي والحرب الأهلية، واستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، ومقتل محمد بوضياف، ومجيئ بوتفليقة، كل ذلك بإمكان خالد نزار أن يكشف ولو جزئيا عنه لو أراد ذلك، لكن قدر الجزائريين أن يقرأوا تاريخهم متأخرين جدا.

4