ماذا لو بقي الرئيس الطيب الوطني العادل العاقل

لو كان الرئيس عبدالرحمن محمد عارف باقيا هو الرئيس إلى اليوم لكان الوطن العراقي وأهله وسوريا وأهلها ولبنان وأهله واليمن وأهله ودول الخليج ومصر والأردن بألف خير وسلام.
الجمعة 2023/12/22
الرئيس العراقي الأسبق عبدالرحمن عارف يحضر احتفالية للقيادة العراقية بذكرى استفتاء التجديد للرئيس صدام حسين (1999)

ماذا كان سيحدث للعراق والمنطقة لو بقي الرئيس الطيب الوطني العادل العاقل المسالم عبدالرحمن محمد عارف رئيسا، إلى اليوم، ولم يخنه حراسه الأقربون؟

طبعا أول شيء كان لم يعتقل ويعذب أو يأمر بإعدام أيّ عراقي لأسباب سياسية. ولم يلجأ إلى اغتيال المخالفين له في الرأي حتى وهم هاربون منه ولاجئون في بلاد الله الواسعة، لندن والقاهرة وبيروت وغيرها.

وثاني شيء أن مجزرة قاعة الخلد لم تكن لتحدث لتفتح على الوطن وأهله جهنم القتل الكيفي، والإعدامات دون محاكمة، ولم يصبح الرئيس هو الوطن والشعب والشرف والدين، وهو الخصم والحكم، وهو الشرع والقانون.

وثالث شيء أن القضية الكردية كانت قد تم حلها بالتراضي وبصيغة وطنية عاقلة وعادلة تُجنّب العراق حروبا غير مبررة.

◙ أول كارثة حدثت في العراق ولَدت كوارث، والكوارث ولدت كوارث، وها هو العراق اليوم، كما ترون وتسمعون، لا أمن ولا أمان، لا ماء ولا دواء، لا هواء ولا كهرباء، وما خفي كان أعظم

فقد كان رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه عبدالرحمن البزاز عازميْن قولا وعملا، على حل القضية الكردية بالتي هي أحسن. وهذا يعني أن القتال بين الحكومة والشعب الكردي ما كان قد وقع، وأن شاه إيران لم يكن ليستغل التمرد ضد الحكومة، كما يسميه البعض، و(الثورة) الكردية كما يسميها البعض الآخر، فيسلح مقاتلي أحزاب الجبهة الكردية، نكاية وكرها بحكومة بغداد، وهو الذي لم يكن على عداء مع حكومة الرئيس عبدالرحمن محمد عارف.

وبالتالي فإن الرئيس لم يكن مضطرا لتوقيع اتفاقية الجزائر 1975، فيعطي نصف شط العرب ومناطق حدودية للشاه مقابل وقف لدعمه للثورة الكردية.

كما أن الرئيس عبدالرحمن لم يكن ليسمح للإمام الخميني، وهو الضيف على الشعب العراقي في النجف الأشرف، بالتحريض ضد الشاه، ونشر دعوته في إيران من خلال أشرطة الكاسيت التي كانت تسجل في النجف وتُهرّبها المخابرات العراقية إلى داخل إيران.

ودون توقيع اتفاقية الجزائر لم يكن الإمام الخميني، ليغضب ويصدر بيانا ضد اتفاقية الجزائر يُخوّن فيه من وقّعها، ليضطر رئيس الجمهورية العراقية إلى محاصرة منزله، وطرده من العراق في 4 أيلول – سبتمبر 1978، ورميه على الحدود العراقية الكويتية، لتستغل فرنسا وأميركا الفرصة وتحملاه إلى باريس ليعود حاكما مطلقا إلى طهران، ويعلن عزمه على تصدير الثورة إلى العراق.

ولو لم يوقع الرئيس عبدالرحمن اتفاقية الجزائر لما اضطر لتمزيقها في 1980.

حدثني الراحل الدكتور عدنان الباججي وزير خارجية العراق 1967 ونحن في فندق هلتون أنقرة ضمن وفد مرافق للرئيس عبدالرحمن محمد عارف في زيارته الأولى إلى تركيا فقال: “تأزمت علاقتنا بشاه إيران، وأوشكت أن تصل إلى حالة الصدام العسكري. وقد حاولت، باعتباري وزيرا للخارجية، بكل ما أوتيت من قوة وجهد، أن أخفف حالة التوتر، وإيقاف المواجهات الصغيرة على الحدود وفي شط العرب، ولكنني فشلت بسبب التعنت الإيراني.

وكنت أقدم للرئيس عبدالرحمن يوميا عرضا دقيقا لكل ما يحدث من تحرشات إيرانية بمواقعنا وأشرح له ما نبذله من جهود. وكان يحثني على مواصلة الجهد لتبريد الحال.

وفي ذات صباح فوجئت بطلب من الرئاسة أن أتوجه إلى معسكر الرشيد لمقابلة الرئيس. ويبدو أن الطلب نفسه قد شمل وزراء آخرين ومنهم وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش.

وحين وصلتُ إلى المطار وجدت طائرة نقل عسكرية من نوع (أوكرانيا) تدور محركاتها وطُلب مني أن أصعد إليها. ففوجئت بالرئيس عبدالرحمن والوزراء الآخرين في انتظاري. وفور صعودي أمر الرئيس بالإقلاع. لم يقل أيّ شيء، ولم يسأله أيّ منّا عن الوجهة والغرض.

أول طابع لعبدالرحمن عارف بعد أن خلف أخاه عبدالسلام عارف
☚ أول طابع لعبدالرحمن عارف بعد أن خلف أخاه عبدالسلام عارف

بعد طيران حوالي ساعة سمعت  قائد الطائرة ينادي السلطات الجوية العسكرية في إيران، ويقول إن على الطائرة رئيس الجمهورية العراقية والوفد المرافق في زيارة أخوية خاصة لجلالة الشاه.

بعد قليل جاءه الرد، مَرحبا بكم، جلالة الشاه في انتظاركم. ثم هبطنا في مطار عسكري خارج طهران، ثم نقلتنا إلى القصر الملكي لنفاجأ بالشاه شخصيا واقفا خارج القصر في انتظارنا، والفرح والبشاشة على محياه. وبعد أن تعانق مع الرئيس عبّر عن سروره بهذه الزيارة المفاجئة التي لم تسبقها اتصالات وتفاهمات دبلوماسية.

وعقد اجتماع عمل على الفور. وفي بداية الاجتماع توجه الرئيس بالكلام فقال وهو يبتسم، يا جلالة الشاه نحن محكومون بالجيرة الإجبارية الأبدية، فلا أنا قادر على حمل العراق والذهاب به إلى منطقة أخرى، ولا أنت قادر على حمل إيران واختيار جيران آخرين غيرنا. فضحك الشاه وهز رأسه موافقا. واستطرد الرئيس في الحديث فقال، نحن في النهاية إخوة في الدين والجيرة، فماذا تريد من العراق؟ ماء؟ أشبار من أرض على الحدود؟ كل شيء يمكن التفاهم عليه والتراضي، لأن القوة لا تحل المشاكل. ولنا في التاريخ عِبَرٌ كثيرة.

نستطيع الآن، أنت وأنا، من هنا أن نعلن الحرب بين بلدينا، ولكن ثق لا أنت ولا أنا سوف نستطيع إيقافها. فهناك ألف يد ويد سوف تتسلل وتتدخل وتصب الزيت على النار التي لن تحرق أحدا غير شعبينا، وقد تطول سنوات وسنوات. هذه يدي ممدودة بالمحبة والأخوة وأرجو أن أجد مثلها من جلالتكم. وهنا نهض الشاه من مكانه وسار باتجاه الرئيس عبدالرحمن وتعانقا مجددا”.

وهذا يعني أن الرئيس لم يكن ليتورط في الحرب العراقية – الإيرانية التي أفلست الدولة ومزقت كيانها ودمرت موانئها وجسورها وجامعاتها ومستشفياتها، وقتلت مئات الآلاف من شبابها ورملت نساءها ويتمت أطفالها وتسببت في أسر مئات الآلاف.

وحتى لو حدث ودخل حربا مع النظام الإيراني، وهذا من المستحيلات، فإنه لن يعتذر لقيادة الحكم في إيران، ولن يحاول استرضاءها ويُودعَ أفضل طائراته الحربية والعسكرية وبوارجه وديعة لدى عدوّ لا ينسى ثأره ولو تظاهر بالمودة.

ولو لم تكن حرب الثماني سنوات قد وقعت لما ارتكب الرئيس عبدالرحمن خطيئة غزو الكويت، حالماً بأن يضيف ثروات الكويت إلى ثروات العراق ليصبح ثريّ المنطقة وسيدها المطاع، وليرغم أميركا وحلفاءها الأوربيين والعرب على الرضوخ لإرادته والقبول به شرطيّ المنطقة بعد رحيل الشرطي السابق شاه إيران.

 وحتى لو أخطأ الرئيس عبدالرحمن وقام بغزو الكويت، وهذا من المستحيلات، أيضا، فإن الرئيس العسكري المجرب لم يكن ليرفض سحب جيوشه قبل 15 كانون الثاني – يناير 1991، بأمر من الأمم المتحدة، ليفاجأ بأميركا وثمانٍ وعشرين دولة، بجبروت طائراتها وصواريخها وقنابلها الحارقة المدمرة، تطرد جيوشه من الكويت، وتذله في خيمة صفوان.

ولو لم يحدث غزو الكويت لما وقع الغزو الأميركي – الأوروبي للعراق في 2003 فيدمر ويحرق ويقتل، ثم يُسلّم الجمل بما حمل للأحزاب المسلحة التي ثبت أنها لم تكن أمينة على الوطن، ولا على حاضر أهله ومستقبل أجياله القادمة.

وطبعا لم تتوفر لإيران الفرصة للتعاون مع المحتل الأميركي ليكافئها بالسماح لها بتملّك العراق.

ولما كانت الميليشيات قد دخلت إلى الوطن، بكل سلاحها الخفيف والثقيل، لتصبح دولة فوق الدولة، تنتهك قوانينها وهيبتها وكرامتها، وتجعل من الوطن ساحة اقتتال وتهريب سلاح ومخدرات واغتيال واختلاس.

ولم يكن داعش قد ظهر للوجود فيذبح ويحرق ويدمر، وبالتالي لم تكن الجارة إيران قد انتهزت فرصة احتلال داعش لثلث أراضي العراق لتحتله، عمليا بميليشياتها، ثم لتستخدمه منطلقا لسلاحها وميليشياتها إلى سوريا واليمن ولبنان، وأن الاجتياحيْن الإسرائيليْين للبنان لم يكونا قد وقعا عام 1982، وعام 2006، ولم تدمر بيروت على رؤوس أهلها.

وحماس لم تضطر لتصبح تحت وصاية إيران، ولم تعتمد على دعم محور المقاومة لتشن طوفان القدس، وتُذلّ الجيش الإسرائيلي، لتستغلها عصابة بنيامين نتنياهو وإدارة جو بايدن فتتخذ من طوفان الأقصى ذريعة لقتل أكثر من عشرين ألف شهيد فلسطيني، ولدفن أضعافهم تحت الأنقاض، ولتحرق الأرض وما عليها وما تحتها، ولتضاف إلى المشردين والمهجرين واللاجئين السابقين قوافل جديدة بمئات الآلاف لا مأوى ولا دواء ولا ماء ولا غذاء، ومحور المقاومة يتفرج.

بعبارة أوضح، لو كان الرئيس عبدالرحمن محمد عارف باقيا هو الرئيس إلى اليوم، لكان الوطن العراقي وأهله، وسوريا وأهلها، ولبنان وأهله، واليمن وأهله، ودول الخليج ومصر والأردن، بألف خير وسلام،  ودون دم ورعب وفوضى وفقر وجوع.

والأهم من كل ذلك لكان الآلاف من الضباط والجنود العراقيين الذين استشهدوا في الحروب، أو الذين أعدموا بالمزاج دون محاكمة، وهم بالمئات من الخبراء والعلماء والأدباء والشعراء والفنانين ورجال السياسة والاقتصاد، ما زالوا أحياءً يرزقون، ولكانوا، جميعا، منشغلين بخدمة بلادهم وتعميرها وحماية سيادتها وهيبتها واستقلالها ووحدة شعبها.

ولكانت الملايين من المهجرين والهاربين واللاجئين العراقيين لم تغادر وطنها وأهلها وأقاربها وأصدقاءها، خوفا من ظلم أو هربا من جوع وبطالة، ولبقيت فيه آمنة راغدة وفي سلام ورخاء.

◙ رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه عبدالرحمن البزاز كانا عازميْن قولا وعملا، على حل القضية الكردية بالتي هي أحسن. وهذا يعني أن القتال بين الحكومة والشعب الكردي ما كان قد وقع

ولكانت أطنان الدولارات التي هطلت على خزينة الدولة منذ العام 1968 وحتى يوم الغزو الأميركي 2003، لم تُنفق على الجيوش والسلاح، وعلى العطايا والهبات والإكراميات والقصور وكوبونات النفط التي نثرت على المنافقين المصفقين الكذابين من العرب والعراقيين التي كان ينثرها هارون الرشيد.

ثم وأخيرا لكانت آلاف المليارات من الدولارات التي دخلت إلى خزينة الدولة من 2003 وحتى اليوم، لم تهدر ولم تسرق ولم تهرّب إلى دول الجوار.

ولكان الرئيس الراحل الطيب العاقل النزيه عبدالرحمن محمد عارف قد أنفق كل دولار دخل خزينة الدولة على الوطن والمواطن، ولبقي هذا العراق العزيز وطناً للجميع، موحدا مستقلا قويا مقتدرا، وأغنى من كل دول الجوار.

ولرأيتَ العراق اليوم عامرا، زاهيا، لا يقل جمالا وعمارا وأمنا وسلاما عن سويسرا ودبي، ولكانت اليوم جامعاته رصينة  شامخة، ومستشفياته تتحدث عن تقدمها وكفاءتها الركبان، ولوجدتَ الحدائق المنسقة الزاهرة الجميلة تزيّن مدن الوطن كله، ولرأيت زوارق الفرح والمرح والغناء والموسيقى تمخر دجلة والفرات وشط العرب، ولوجدت المواطن العراقي أغني من المواطن السويدي والسعودي والكويتي والإماراتي والقطري بمراحل. ولوجدت حفلات تكريم المبدعين كل عام، ولكانت آثارنا مقصد الملايين من الحجاج الوافدين من أقاضي المعمورة، ولكانت صناعة العراق وزراعته واختراعاته قد غزت أسواق البشرية كلها.

هذه هي الحقيقة المرة التي لا يريد أن يعترف بها الذين لا يريدون الوسطية ولا يقدرون عليها.

فأول كارثة حدثت في العراق ولَدت كوارث، والكوارث ولدت كوارث، وها هو العراق اليوم، كما ترون وتسمعون، لا أمن ولا أمان، لا ماء ولا دواء، لا هواء ولا كهرباء، وما خفي كان أعظم.

أليست هذه هي الحقيقة؟

 

اقرأ أيضا:

         • غياب الثوابت الوطنية يفاقم النزاعات.. العراق نموذجا

9