مصر تنوع الاقتراض وسط غموض في برنامج الطروحات

يعتبر خبراء أن مصر أمام خيارات محدودة لحل أزمة شح العملة المتفاقمة بفعل انحسار العوائد المتدفقة من برنامج الطروحات، ما يفرض عليها اللجوء إلى توسيع رقعة الديون، مع تقلص هوامش تحرك الحكومة لتوفير المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
القاهرة - يعكس سعي القاهرة إلى تنويع مصادر الديون الخارجية حجم الضغوط المالية التي تعاني منها الدولة، إذ تواجه محنة حقيقية لتلبية احتياجات المستثمرين من الدولار لوجود أكثر من سعر في الأسواق، فضلا عن ارتفاع حجم الديون المطلوب سدادها الفترة المقبلة.
وقررت السلطات الاستفادة من أشكال أخرى من الديون، أبرزها طرح شهادات الكربون في الأسواق العالمية بالاستعانة بالبنك الدولي لترويجها، بعد الإعلان عن تدشين السوق الأفريقي الطوعي لتداول شهادات خفض الانبعاثات، والذي يبدأ تداولاته العام المقبل.
ويراهن المسؤولون على الاستفادة من الحوافز التي تتوفر مع وجود سوق كربون إلزامي، وهو مصدر مستدام لجذب الاستثمارات عبر طرح فائض الشهادات للبيع بالأسواق العالمية.
وتخطط وزارة المالية أيضا لطرح “السندات المستدامة” والتي تتنوع بين السندات الخضراء والزرقاء العام المقبل لجمع نحو مليار دولار. وما يميز هذه الأدوات أنها منخفضة التكاليف من حيث الفائدة، وتتمثل الأعباء في سداد الأقساط طويلة المدة، وتحصل الحكومة على فرصة للسداد مع عدم وجود مجال للتعثر.
ولا تتوقف الاستدانة عند التمويل الأخضر، إذ كشف وزير المالية محمد معيط عن إصدار البلاد لسندات مقومة بالروبية الهندية بقيمة 500 مليون دولار العام المقبل، وهي المرة الأولى التي تصدر فيها مصر سندات بالسوق الهندية.
وتكمن أهمية الخطوة في اعتبارها تنويعا لمصادر التمويل بالرهان على نجاح القاهرة في إصدار السندات المقومة بالعملات الصينية واليابانية التي جمعت نحو 980 مليون دولار يتم سدادها باليوان والين.
ويتوقع أن تتوسع الحكومة في الاقتراض لجمع أكبر حصيلة من الديون بعد غموض برنامج الطروحات وتأجيل بيع أبرز الشركات، التي كان سيتم إدراجها الشهر الجاري، ويعد وجود أكثر من سعر للعملة الأميركية في السوق المحلية سببا مباشرا لهذا التأخير.
وتكشفت تصريحات حكومية غير واضحة بشأن بيع شركة وطنية مملوكة للجيش ما عمق الغموض في المسألة، بعدما أعلنت وزيرة التخطيط هالة السعيد أن الصفقة ستتأخر إلى العام المقبل من دون الكشف عن الأسباب.
وجاء كلام السعيد بعد أن أعلن مدير الصندوق السيادي أيمن سليمان أن ديسمبر الجاري بداية الإعلان عن البيع الحقيقي لشركات الجيش، ممثلا في وطنية.
وأشارت تصريحات مسؤولين آخرين إلى أن التأجيل جاء نتيجة تأخر فتح غرفة البيانات للشركات التي تعزم على الاستحواذ وعدم تلقي العروض النهائية من الشركات المزمع تنافسها على الشراء، خاصة شركتي إينوك وأدنوك الإماراتيتين، فيما تقدمت شركة طاقة عربية بعرضها.
ودخل الإعلان عن صفقة بيع حصة في وطنية العام الثالث بلا تقدم ملحوظ، ولم يتضح حجم الحصة المستهدفة، رغم أن سليمان قال إنه “سيجري بيع مئة في المئة من أسهم الشركة”.
وتأجلت صفقات بيع شركات إيلاب وإيثيكو والحفر الوطنية التي تتبع وزارة البترول من دون الكشف عن الأسباب، إذ كان من المتوقع بيع حصص متنوعة فيها لشركة أبوظبي القابضة (أي.دي.كيو) مقابل 800 مليون دولار.
وقال خبير الاستثمار سعيد يونس إن “تنويع الاقتراض وسيلة إيجابية لدى الحكومة لتغطية فجوة الدولار، وهي أداة تكلفتها غير مرتفعة كثيرا بشرط التعدد مقارنة بقصر التمويل بأدوات الدين التقليدية التي أصبحت غير مناسبة مع ارتفاع الفائدة”.
وأضاف يونس، عضو جمعية مستثمري السويس، لـ”العرب” أن “سبب غموض برنامج الطروحات الذي راهنت الحكومة عليه كأداة لحل أزمة نقص الدولار هو عدم وجود سعر صرف مرن”.
وتسعى الحكومة إلى وجود سعر صرف واحد عبر التمويلات الخارجية، لتلبي متطلبات الاستيراد والبضائع المكدسة في الموانئ، بالتالي يتراجع الطلب على الدولار في السوق الموازية.
ومن شأن ذلك منح البنك المركزي فرصة لوجود سعر صرف مرن ليس عند المستويات الحالية التي تشهدها السوق السوداء.
ويمكن التفاوض على بيع شركات جديدة واستمرار برنامج الطروحات الذي لن يتوقف، لكن خطوة الاقتراض الحالية إرجاء لتحرير جديد للجنيه يصعب حدوثه.
واستأنفت القاهرة البرنامج في وقت سابق من هذا العام، عندما حددت 35 شركة لبيع حصص بها لمستثمرين من القطاع الخاص في إطار مساعي إنهاء أزمة العملة الأجنبية والوفاء بشروط برنامج الإصلاح مع صندوق النقد الدولي.
وجرى بيع حصص من ثلاث شركات فقط للمستثمرين، وهم الشرقية للدخان، والمصرية للاتصالات، وشركة العز الدخيلة، بنحو مليار دولار، فيما كانت صفقة الشرقية للدخان الوحيدة التي تم تحصيل قيمتها بالعملة الأجنبية.
وتستهدف مصر جمع 5 مليارات دولار من برنامج في الفترة بين أكتوبر الماضي ويونيو المقبل، لكن تحوم الشكوك حول تحقيق ذلك المستهدف ما لم تصل إلى سعر صرف واحد للدولار.
وتسرّع الحكومة الخطى للحصول على تمويلات عاجلة بالعملة الأميركية، مع احتدام السوق الموازية، فضلا عن ارتفاع عجز الموازنة خلال الربع الأول من العام المالي الحالي.
وأشار يونس إلى أن سياسة الاقتراض ليست مضرة، لكن إدارتها هي الأصعب، كما أن الظروف التي تحيط بمصر منذ جائحة كورونا ثم الحرب الروسية – الأوكرانية وأخيرا الحرب الإسرائيلية في غزة. واعتبر أن كل هذه الأسباب عرقلت تعافي الاقتصاد والالتزام ببرنامج صندوق النقد، لكنها سترفع التمويلات من الجهات المانحة.
وتسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض في الضغط على المالية العامة، إذ اتسع عجز الموازنة إلى 3.9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في الربع الأول من العام المالي الجاري الذي بدأ في يوليو الماضي من 2.1 في المئة بمقارنة سنوية، مدفوعا بفاتورة الفوائد المتزايدة.
وأكد سيد خضر المحلل الاقتصادي والأكاديمي المصري أن الاقتراض بشكل عام أداة سيئة وتأثيره سلبي على الاقتصاد، لكن البُعد عن الاستدانة بالدولار هو العامل الأبرز في تلك الخطوة الجديدة للحكومة.
ومع أهمية مساهمات الاقتراض في حل أزمة شح العملة على الأجل القصير، لكن ذلك يفاقم أزمة الديون، وهو ما اتضح من خلال فاتورة خدمة الديون والتي بلغت 477.5 مليار جنيه (15.5 مليار دولار) في الربع الأول.
وتزيد تلك القيمة عن ضعف فاتورة الديون التي سُددت خلال الفترة ذاتها من 2022 وسجلت 216.9 مليار جنيه (7 مليارات دولار). ويعد الاقتراض هو الوسيلة الناجزة لدعم العملة المحلية ومواجهة السوق الموازية، لكن ذلك لا يبرر عدم التركيز على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الآونة الأخيرة وعدم الترويج لها.
ويقول خبراء إن ذلك يتطلب سفر المسؤولين لمقابلة أكبر عدد من المستثمرين، وهو ما تعتبره الحكومة مصروفات بالعملة الصعبة يجب الحد منها.
وأوضح خضر لـ”العرب” أن نجاح طرح سندات بالروبية مرهون بتبادل العملات بين المصرفين المركزين المصري والهندي، كما أن سرعة تنفيذ تلقي التمويلات المُعلن عنها شرط لسد العجز في العملة الأجنبية وتحقيق استقرار مالي.
وطالبت الحكومة بالتفاوض على مد آجال الديون والسندات التي تطرحها بالأسواق العالمية وإلا لن تكون خطوة داعمة للعملة أو للاقتصاد وسوف تصبح بمثابة ضغط أكبر على الدين الخارجي في الأجل القصير.