مصر ليس فيها شعراء.. نقد في خدمة العنصرية

التمصير ليس قرارا سياسيا بل قدرة مجتمع على هضم واستيعاب كل وافد ثقافي وإعادة نسجه بطريقته ومذاقه الخاص.
الأحد 2023/12/17
أحمد شوقي ليس أمير الشعراء

أعتقد أن النقد الأدبي غير مسؤول بشكل كامل عن أولئك الذين يتخذونه تكية للتنفيس عن مكنون مشاعرهم السلبية تجاه البشر، لأنه في نهاية الأمر ليس سوى تعبير باللغة عن مكنون العقل من التصورات عن الآخرين. لكن لا يكفي أن نقول ذلك دون أن نكمل بالقول إن كل مكنونات العقل النقدي من تصورات عن الآخرين تعد نتاج تصورات متراكمة تاريخيا شكلت في مجملها محددات لشكل من أشكال الممارسة النقدية الأدبية؛ تلك الممارسة التي تنطوي بذاتها على جرثومة العنصرية.

وسوف أدلل على ذلك بالتطبيق على مقالة الناقد أثير عادل شواي المعنونة بـ”لماذا يفشل المصريون دائما في كتابة الشعر؟”.

ينطلق شواي من يقين لديه بأن المصريين دون استثناء فشلوا ويفشلون وسيفشلون في كتابة الشعر، وأنه قد تبرع بكتابة أسباب تقنع أولئك المصريين بذلك اليقين الذي حرمهم بسببه من دخول جنة الشعر التي صنعتها تصوراته النقدية، بل وتقنع العراقيين والشوام بأنهم شعراء الله في الأرض الذين نجوا من اللعنة التي أصابت المصريين في جغرافيتهم وتاريخهم ولغتهم وثقافتهم المتجانسة فحرمتهم من كتابة الشعر.

تاريخ متخيل

◙ عادل شواي يغض الطرف عن هذا الثراء الثقافي ويتهم البيئة المصرية بالفقر الديموغرافي الذي حرم المصريين من الشعر لحرمانهم من التنوع الثقافي

إن تصورات شواي النقدية تقوم على تقديس نموذج جمالي مركزي مقره الجزيرة العربية جغرافيا والماضي السحيق زمنيا؛ وهو الشعر. ومن ثم يكرر دون ملل ثنائية مستهلكة في التراث العربي عامة وفي التراث النقدي خاصة وهي ثنائية “البدو/ الحضر” أو “أهل الجزيرة/ الأمصار” أو “العرب/ الموالي”؛ وهي ثنائية بنْت سياق تاريخي برر العنصرية جماليا، وقد عرفت الظاهرة في التراث النقدي باسم “الشعوبية”.

إن المفارقة أن أسلافنا من النقاد والشعراء المدافعين عن عنصرهم كانوا يدافعون عن دور لعنصرهم في بناء حضارة قائمة بالفعل يتصارع كل طرف على مساحة أكبر له في توجيه مسارها وإدارة أمورها اليومية، أما شواي فإنه يستعيد دون ملل تصورات نقدية شعوبية في سياق تاريخي مأساوي عربيا وإسلاميا.

والمفارقة الثانية أن أسلافنا من النقاد والشعراء الشعوبيين كانوا يدافعون عن عنصرهم باعتبارهم “أصلا” متفردا في مواجهة “الآخر” المتفرد، بينما شواي يهاجم شعراء مصر لأنهم تابعون من الدرجة الثانية، في حين حظي شعراء العراق والشام وفق تصوراته النقدية بمرتبة التبعية من الدرجة الأولى. ذلك لأن الأصل قد تم تقديسه في مخيلة شواي النقدية ومن ثم تجمدت المعايير النقدية حتى صارت من لوازم “المطلق” النقدي زمنيا وجغرافيا.

 وليس أدل على ذلك من إطلاقه لحجته الأولى المتعلقة بالانفصال الجغرافي بين مصر والجزيرة العربية مقارنة باتصالها بالعراق والشام دون أي تحديد زمني، بل ودون أي اعتبار لأي وسيلة أخرى من وسائل الاتصال بين البشر مكنت اللغة العربية من الانتشار ليس في مصر فحسب، بل في ولاية ميتشجن الأميركية شديدة القرب من ولاية فرجينيا التي يكتب منها الناقد مقالته النقدية.

إن مخيلة شواي النقدية هيأت له تاريخا متخيلا للغة العربية لا علاقة له بالواقع اللغوي، بل لا علاقة له بالواقع بشكل عام، وليس أدل على ذلك من استخدامه لكلمة “الشوام” إشارة إلى كيان لغوي وجغرافي وسياسي أصبح -للأسف الشديد- في ذمة التاريخ. وتلك مغالطة زمنية يسوقها شواي ليبني عليها ثوابته النقدية، ولهذا تتكشف مدى هشاشة تلك الثوابت النقدية بمجرد الكشف عن مغالطاته الزمنية والمنطقية، تلك المغالطات التي لا يمكن تبرئة النقد الأدبي منها بشكل كامل؛ ذلك أن اختزال الشعر في كونه فنا لغويا وفق تصور معياري شديد الجمود للتطور اللغوي يتحمل مسؤوليته التراث النقدي الذي تشكلت وفقه مخيلة شواي النقدية، وهذا غير منفصل عن تصوره للعلاقة بين الشعر والحرية.

◙ عادل شواي ينطلق من يقين لديه بأن المصريين دون استثناء فشلوا ويفشلون وسيفشلون في كتابة الشعر
عادل شواي ينطلق من يقين لديه بأن المصريين دون استثناء فشلوا ويفشلون وسيفشلون في كتابة الشعر

الحجة الثانية التي يقدمها ليدلل على افتقار مصر لحكام يرعون الشعراء والشعر مثلما كان الحال في العراق والشام هي حجة تكشف عن استعداد شواي لغض الطرف عن الآثار السلبية التي خلفتها تبعية الكثير من الشعراء العرب على مدار تاريخهم القديم للخلفاء والولاة والدوران في فلكهم مرضاة لهم وطمعا في عطاياهم، والأنكى استعداد شواي لكل ذلك دون اعتبار التحول الجذري الذي حدث في العالم حين صار القارئ/ المواطن هو القبلة التي يولي الشعراء إليها وجوههم من أجل التمرد على تراث شعري قدم العديد من الأدلة على تقديم الكثير من الشعراء قصائدهم قرابين للتقرب إلى الحكام والممدوحين فكانوا أسرى العطايا لا سادة الكلام.

إن الوقوع في الأسر يحرم المرء من أسمى معاني الإنسانية وهو معنى الحرية، ولا يكون الأسر بالعطايا فقط؛ فمن أشد أنواع الأسر فتكا بحرية الإنسان وقوع العقل أسيرا لفكرة واحدة يتعبدها ويقدم لها الحجج قرابين دون أن يتأمل تنافر قرابينه المذبوحة استرضاء لفكرة واحدة، وهو ما وقع فيه شواي استرضاء لفكرة فشل المصريين في كتابة الشعر فشلا سرمديا وأزليا. ومثال ذلك تنافر حجته المتعلقة بضعف اللغة العربية في مصر مقارنة بالعراق والشام والتي استخلص منها أن صلاح عبدالصبور نسخة مقلدة من بدر شاكر السياب مع حجته القائلة إن الشعر الشعبي المصري أيضا لم يكن جيدا إلا في اللهجة النوبية ضاربا مثالا بـ”نعناع الجنينة” بسبب ابتعاد النوبة عن المركز القاهري السلطوي الذي يحرم المصريين نعمة التنوع الثقافي التي منّ بها الله على خلقه من العرب في العراق والشام.

الهوامش تنتج شعرا

إن القول بإمكانية أن ينتج الهامش شعرا يعجب شواي يدعوه لأن يعيد التفكير في تصوراته النقدية المبنية على تراتبية أن المركز أكثر شاعرية من التابع رقم 1، وأن التابع رقم 1 أكثر شاعرية من التابع رقم 2، فـ”نعناع الجنينة” إبداع شعري باللغة العربية يغنيه ويتلقاه المصريون في الهامش والمركز، ووجود اللغة العربية في النوبة شعرا وسردا يدعو شواي إلى ضرورة النظر في قدرة مصر على تمصير كل شيء بما في ذلك لغة العرب وشعرهم وثقافتهم. فهل التمصير دليل قوة أم دليل ضعف؟!

إن التمصير ليس قرارا سياسيا ولكن قدرة مجتمع على هضم واستيعاب كل وافد ثقافي وإعادة نسجه بطريقته ومذاقه الخاص إبداعا وتلقيا، وليس على شواي سوى أن يتذكر أن أمير الشعراء -والذي لا يعجبه حصوله على اللقب- لم يكن إلا ابنا لأب كردي وأم تركية شركسية ومثلما فعلها المجتمع المصري مع شوقي وهو في حضن الخديوي فعلها مع اللبناني فؤاد حداد وجعله يبدع بعاميته وهو في معتقلات جمال عبدالناصر.

وإذا أردنا الدقة فإن ما كان يتم من انسجام بين الوافد الثقافي والوافدين من أعراق شتى والتربة المصرية لم يكن نتيجة عملية تمصير تتم في اتجاه واحد وإنما أيضا نتاج سعي للتمصر من طرف الكثير من النماذج المبدعة، وهو ما يفسر الوصول إلى الإبداع وليس مجرد التعايش الحياتي. إن هذا التفاعل بين ثقافات مختلفة في التربة المصرية وتمازجها وانسجامها أكثر تعبيرا عن الثراء الثقافي من تلك البيئات التي تتجاور فيها الثقافات الفرعية دون حوار، بل وتتربص ببعضها البعض في انتظار لحظة الانفجار المدمر لوحدة الدولة الوطنية.

يغض شواي الطرف عن هذا الثراء الثقافي ويتهم البيئة المصرية بالفقر الديموغرافي الذي حرم المصريين من الشعر لحرمانهم من التنوع الثقافي. بل يغض الطرف عن التنافر بين حجته القائلة بضعف الشعر نتيجة افتقار مصر لبلاط الحكام الداعمين للشعر والشعراء وحجته القائلة بضعف الشعر لقوة النظام الحاكم والمتمثلة في التنوير من أعلى! فغياب دور بلاط الحاكم شر وحضوره شر مستطير، ففي كل الأحوال سوف يحكم شواي على مصر وشعرها بالضعف مستخدما الحجة ونقيضها في آن واحد.

◙ تصورات شواي النقدية تقوم على تقديس نموذج جمالي مركزي مقره الجزيرة العربية جغرافيا والماضي السحيق زمنيا؛ وهو الشعر

إن شواي يعوزه أن يجيد سبك الحجج حتى يزول تنافرها، بل ويعوزه أن يفكر كيف سيتعامل مع دهشة القارئ العربي حين يسأله إن كانت مصر ضعف شعرها بسبب “التنوير من أعلى” فأي دولة عربية جاءها التنوير من أسفل وأنجبت شعراء يروق شعرهم للناقد؟

لقد جعل النقد الأدبي في خدمة العنصرية لأن مخيلته النقدية حصرت الأدب في الشعر وتعالت على غيره من فنون اللغة، ومثلما وضع فنون القول في تراتبية وضع الشعراء في تراتبية مستندا لمعيار العرق والصلة بالنبع المقدس للغة في الجزيرة العربية، ومن ثم جاءت الأحكام النقدية لديه تعبر عن خليط من عبارات مستهلكة في النقد الأدبي القديم كما هو الحال عند وصفه لمحمود سامي البارودي باعتباره استثناء نسبيا عن الشعر المصري قائلا “فالبارودي شاعر جزل جيد السبك يحسن اختيار العبارة”، ثم يهاجمه لأن شعره تقليدي عمودي لا نشعر فيه بخواصه النفسية والاجتماعية! فهل كان شواي يتوقع أن يظهر في عصر الإحياء من يكتب له قصيدة النثر التي كتبها محمد الماغوط وأنسي الحاج ووديع سعادة، أم أنه يعتبر هؤلاء الشعراء لا يرقون إلى مستوى الكفاءة اللغوية لنموذجه الجمالي في الجزيرة العربية والعراق؟

كان يمكنني أن أتفهم أحكام شواي النقدية لو كانت قد استندت إلى غياب التجربة الإنسانية المؤلمة عن المجتمع المصري في فترة من الفترات بينما كان لمثل هذه التجربة آثارها على شعراء لبنان مثلما كان الحال مع الحرب الأهلية، أو مثلما عليه الحال الآن في المنافي للعراقيين والسوريين. لكن استناده لأسباب عرقية ولغوية مغلوطة تعزز العنصرية يجعلني أدعوه لأن يتأمل نموذجا جماليا مختلفا عن ذلك القابع في الماضي في صحراء الجزيرة العربية؛ ألا وهو النموذج الجمالي الشعري الذي قدمته التجربة الإنسانية للشعوب العربية في لبنان وسوريا والعراق بل وفي المنافي الأوروبية والأميركية، ربما يجد ضالته من الشعر في ذلك الجسر الشعري الواصل بين الماغوط ووديع سعادة وأنسي الحاج من ناحية وعاطف عبدالعزيز وإيمان مرسال ومحمد أبوزيد وأحمد شافعي وأحمد عايد ومحمود قرني وعماد أبوصالح ومحمد خير وصفاء فتحي ومروة أبوضيف والقائمة ربما تكون أطول من أن يتسع وقت شواي لقراءتها.

9