تونس ونساؤها

المجتمع التونسي مازال في الكثير من الأوجه مجتمعا ذكوريا محافظا بشكل يوحي بأن هناك استعدادا للقبول ببقاء المرأة في مربع محدد لها خارج نطاق المساواة الفعلية مع الرجل.
السبت 2023/11/25
نساء تونس عرضة للعنف الذكوري رغم العقوبات

لا أدري لماذا يزعجني إصدار اتحاد الكرة لبلاغ موجه للجمهور الرياضي كل مرة يجري فيها الفريق الوطني التونسي لكرة القدم مباراة دولية يقول فيه “دخول الملعب مجاني للنساء والأطفال”.

لا أجادل في حسن نية أصحاب الدعوة. ولكنني أشعر أنهم من حيث لا يدرون يوجهون من خلال دعوتهم رسالة ضمنية باستنقاص المرأة.

هناك الكثير في تونس من لا يجد الرسالة صادمة على ما يبدو. من المفروض أن يسأل الجمهور اتحاد الكرة هل تحتاج المرأة إلى مجانية الدخول أكثر من الرجل كي تذهب إلى الملعب؟ وهل هي بالضرورة دون سن الرشد حتى توضع في نفس خانة الأطفال؟ ولكن لا أحد يسأل أو يستنكف.

رغم المكاسب التي حققتها المرأة فإن ثقافة التمييز ضدها منتشرة في تونس بشكل معلن أو مبطن إلى حد يشبه التطبيع مع مختلف مظاهرها. الكثير (حتى بعض النساء أنفسهن) يعتقدن أن المرأة نالت بعدُ حقوقها في تونس وزيادة. بل هناك من يرى أن المرأة اكتسحت مساحات واسعة أضحت تغمر المواقع الطبيعية للرجل.

مازال المجتمع التونسي في الكثير من الأوجه مجتمعا ذكوريا محافظا بشكل يوحي بأن هناك استعدادا للقبول ببقاء المرأة في مربع محدد لها خارج نطاق المساواة الفعلية مع الرجل.

بذلت تونس منذ استقلالها سنة 1956 جهدا لا ينكره أحد على صعيد استصدار القوانين المرسخة لحقوق المرأة من بينها مجلة الأحوال الشخصية بالخصوص. وظف الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة شعبيته في هذا الاتجاه حتى لما كان المجتمع غير جاهز تماما للإصلاحات الجريئة التي أرادها ونجح في إدخالها ضمن رؤية حداثية للمجتمع.

تونس التي ما انفكت تواجه الأزمات بأنواعها لا تحتاج إلى التمييز ضد المرأة من أجل تحسين أوضاعها بل تحتاج إلى مواصلة السعي لإعطاء المرأة المكانة التي تستحقها في عملية البناء

واصلت الدولة زمن زين العابدين بن علي السير على نفس الدرب. ولكن التيارات المحافظة بدأت منذ سنوات حكمه وحتى قبلها الزحف المعاكس، وإن كان ذلك بهدوء. خرجت هذه التيارات من صمتها في ظل صعود التيارات السلفية بعد 2011 لما حاول بعض المشرعين الإسلاميين التنصيص في دستور البلاد الجديد على أن “المرأة مكملة للرجل”. وفشل هؤلاء، ولكن ظلهم بقي يخيم على الأجواء من بعيد.

اضطربت صورة المرأة التونسية في الخارج تدريجيا نتيجة المطبات التي مرت بها البلاد، مما جعل تصنيف تونس حسب سلم منتدى دافوس للمساواة بين الجنسين يتدنى من المرتبة 90 سنة 2006 إلى المرتبة 124 سنة 2020 وإن كان تحسن هذا الترتيب خلال السنوات الأخيرة ليبلغ حاليا المرتبة المئة والعشرين. وهذا التصنيف وإن كان يضع تونس في المرتبة الثالثة عربيا اليوم فهو لا يتناسب وسمعتها كدولة رائدة في الدفاع عن حقوق المرأة.

تؤكد الدولة أنها لا تألو جهدا لضمان تمتع المرأة بحقوقها بدءا بتواجد الفتيات على قدم المساواة مع الذكور على مقاعد الدراسة. وتبدو البنات متشبثات بالدفاع عن فرصهن في التعليم لقناعتهن بأن ذلك أكبر ضمانة لهن للحفاظ على مكاسبهن.

وكان من اللافت تصريح وزيرة المرأة آمال موسى الشهر الماضي بأن نسبة تسجيل الفتيات في المدارس الابتدائية بلغت 99.7 في المئة فيما بلغت نسبة الطالبات 66 في المئة في الجامعات الحكومية. وتظهر نتائج التخرج كل عام من الثانويات العامة ومن الجامعات تفوّق الفتيات على أقرانهن.

معطيات تثلج الصدر، لكن هناك معطيات أخرى تبعث على الانشغال رغم كل ما أنجز، وتشير إلى حجم المفارقات التي تواجه المجتمع والدولة، ومن بينها بالخصوص استمرار الحواجز التي تمنع نساء تونس من تجسيم مكاسبهن ونتائجهن التعليمية لما يدخلن معترك الحياة.

لما تتخرج البنت من الجامعة (أو حتى عندما تقصد سوق الشغل قبل التخرج) فهي تصطدم بواقع لا يعترف بتساوي الفرص أو بتكافئها. تجد نفسها عرضة للبطالة بشكل لا يتعرض له زملاؤها الذكور عندما يطرقون أبواب سوق الشغل.

المأساة التي يمكن أن تواجه أي بلاد هي أن يتوهم بعض أهلها أن المسلك الأقوم يتمثل في تفكيك الصروح التي بناها المؤسسون الأوائل.

تقول الإحصائيات الرسمية إن نسبة البطالة لدى المرأة تبلغ أكثر من 21 في المئة فيما تبلغ بالنسبة إلى الرجل حوالي 13 في المئة. (النسبة الإجمالية للعاطلين عن العمل من الجنسين تقدر بـ15.6 في المئة). أما بالنسبة إلى خريجي الجامعات فتبلغ نسبة العاطلين عن العمل قرابة 15 في المئة للذكور و31 في المئة للإناث، أي أكثر من الضعف.

نسب غير منصفة للمرأة. ولكنها في الواقع تعكس عقليات سائدة تظهرها استطلاعات للرأي ومن بينها استطلاع أنجزه “البارومتر العربي” السنة الماضية وخلاصته أن أغلبية التونسيين يعتقدون أن الرجال جديرون بأن يحظوا بالأولوية في التشغيل.

والاستعداد للتمييز ضد المرأة يشمل معظم حلقات الإنتاج. فلما تجد المرأة شغلا في القطاع الخاص فهي لا تتقاضى نفس أجر الرجل. كما تجد صعوبة في احتلال مراكز قيادية في مختلف الأنشطة الاقتصادية.

تمثل النسوة مثلا 75 في المئة من العاملين في القطاع الفلاحي. ولكن نسبة صاحبات المشاريع الفلاحية بينهن لا تتجاوز 6 في المئة.

ما زال السقف البلوري سميكا ومن أعراضه أن أصحاب المصارف غير مقتنعين بجدوى إسناد القروض لصاحبات المشاريع مثلما يسندونها للرجال.

تقول آمال موسى إن “المتخيل الاجتماعي التونسي مازال بحاجة إلى نضال كبير من أجل القضاء على الأفكار الرجعية والعقلية الذكورية التي تمجّد العنف ضد المرأة”.

تحررت الألسن خلال السنوات التي خلت ولكن معها اضطربت البوصلة لدى الكثيرين وتسربت أوهام وهواجس لدى البعض توحي بأن عالم ما قبل مجلة الأحوال الشخصية من شأنه أن يوفر لهم حلولا لمشاكلهم الحقيقية والمتخيلة. وأصبح هناك مثلا من يناقش فرضية تعدد الزوجات والزواج العرفي وكأنما هي حرية حرم منها ظلما. ولولا الحظر القانوني الصارم لكان هذا النوع من الزيجات دخل ضمن الممارسات الجديدة في المجتمع.

في الأثناء تتزايد أعداد النساء اللاتي يتعرضن للعنف الذكوري بالرغم من العقوبات التي ينص عليه قانون سنة 2017 بالنسبة إلى مرتكبي هذه الجرائم. والأخطر من العنف ذاته هو تطبيع أفراد المجتمع معه، ومن بينهم ضحاياه أنفسهم. والمذهل أحيانا أن يجد العنف من يبرره ويحمل الضحية مسؤوليته بالزعم بأن الزوجة أو البنت أو الزميلة في الشغل “تجاوزت حدودها”. بل هناك من يبذل جهدا خاصا في التنقيب عن الأرقام التي تدل على أن المرأة تمارس هي أيضا العنف ضد الرجل.

الاستعداد للتمييز ضد المرأة يشمل معظم حلقات الإنتاج. فلما تجد المرأة شغلا في القطاع الخاص فهي لا تتقاضى نفس أجر الرجل. كما تجد صعوبة في احتلال مراكز قيادية في مختلف الأنشطة الاقتصادية

ليس هناك خطر داهم يهدد بنسف حقوق المرأة في تونس لكنّ هناك خطرا صامتا بأن يتعود الناس على تآكل هذه الحقوق.

محاولات تبرير العنف والتمييز ضد المرأة تستند إلى أن البلاد في أزمة. يقول البعض إن هناك “توترات مجتمعية مفهومة” تمنح الرجل أعذارا في تصرفاته غير المسؤولة. وهناك ظروف اقتصادية صعبة تجعل من الضروري إعطاء الأولوية للرجل.

ذريعة الأزمة لم يبتدعها التونسيون. فقد عرفتها ومازالت تعرفها شعوب أخرى بما فيها شعوب البلدان المتقدمة.

قالت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار يوما “لا يجب أن ننسى أبدا أن أزمة واحدة سياسية أو اقتصادية أو دينية تكفي لوضع حقوق المرأة موضع التشكيك”.

ولكن تونس التي ما انفكت منذ سنوات تواجه الأزمات بأنواعها لا تحتاج إلى التمييز ضد المرأة من أجل تحسين أوضاعها، وذلك مهما كانت الذرائع ودواعي الالتباس.

بل هي تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى مواصلة السعي لإعطاء المرأة المكانة التي تستحقها في عملية البناء.

تلك ضرورة اقتصادية، فكل الدراسات تدل على أن عدم نيل المرأة حظها في سوق الشغل على قدم المساواة مع الرجل لا يمكن إلا أن يعرقل وتيرة التنمية في أي دولة.

وتلك أيضا ضرورة أخلاقية ومبدئية. وحقوق المرأة ليست عبئا مفروضا من الخارج يمكن التخلص منه لما يلتبس مفهوم الهوية.

كما هي مسؤولية تمليها ضرورة الوفاء لنضالات الرجال والنساء الذين آمنوا بالمساواة بين الجنسين.

والمأساة التي يمكن أن تواجه أي بلاد هي أن يتوهم بعض أهلها أن المسلك الأقوم يتمثل في تفكيك الصروح التي بناها المؤسسون الأوائل.

Thumbnail
8