بوصلة الأخلاق والمال

جميع الناس في كل مكان من العالم بداخلهم "جرح مالي غائر" يصاحبهم منذ الطفولة ولا يمكن أن يلتئم بسهولة، خصوصا أولئك الذين ذاقوا طعم الحرمان والفقر والخصاصة.
الخميس 2023/11/23
كثيرا ما ننشغل بجمع المال

هل يمكن أن يتخلى المرء عن مهنته التي يعيش ويعيل منها أسرته، لأن سياسات المؤسسة أو الشركة التي يعمل فيها، تتعارض مع قيمه ومبادئه الإنسانية؟

سؤال طفا إلى ذهني عندما رأيت أن الكثير في مجتمعاتنا العربية أكثر إدراكا لـ”البوصلة” الأخلاقية في القضية الفلسطينية، حيث قاد البعض حملات مكثفة لمقاطعة كل الشركات والمحال والمطاعم في الدول العربية ومختلف أنحاء العالم، لتعاطفها ودعمها لإسرائيل في الحرب على قطاع غزة، وليس هناك من شخص تحدثت إليه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلا وكان لديه ما يقوله في هذا الصدد.

في معظم الأحيان دارت نقاشات حادة على منصات التواصل الاجتماعي بين الذين يعتقدون أن المقاطعة هي الحل، وأولئك الذين يقولون إن الأولوية لدعم الفلسطينيين ومساعدتهم في محنتهم. بينما نزعت حكومات برمتها إما إلى الصمت أو إلى التفاؤل أكثر من اللازم بقدرتها على إدارة الأزمة، وهي مشكلة عربية أزلية تسمى بـ”التوهم بأن كل شيء تحت السيطرة”.

على أي حال، من السهل جدا رفع الشعارات، أما عملية تحويلها إلى تطبيقات، فهي التحدي الأصعب.

لكن، بعيدا عن دهاليز السياسة وما يحاك في غرفها المظلمة، يبقى السؤال قائما: هل في مقدورنا أن نتخلى عن وظائفنا حفاظا على قيمنا؟

بطبيعة الحال، يحتاج المرء للإجابة عن هذا الاستفهام، إلى إعادة النظر في طبيعة علاقته بالمال، فبإمكان هذه العلاقة أن تغير تماما، نظرتنا إلى طبيعة العمل الذي نقوم به والقيم التي نؤمن بها.

يقال إن المال قوام الأعمال، فغالبا ما يتحكم المال في عصب الاقتصادات والمصالح، وحتى في العلاقات بين المجتمعات والأفراد، إذ يأتي المال ضمن أكثر أسباب إفساد العلاقات بين الناس، وقيمته تتعدى وظيفته في الشراء. ولذلك لا غرابة أن يراه البعض أفضل وسيلة للشعور بالأمان، أو الحرية أو الحب. في حين قد يراه البعض الآخر وسيلة لتحقيق مكانة اجتماعية أو نفوذ سلطوي وسياسي. وبذلك فإن طبيعة علاقة المرء بالمال قد تعيق النوايا الحسنة، خاصة عندما تجرى مفاضلة عقلية بين القناعات الأخلاقية والحوافز المادية.

جميع الناس في كل مكان من العالم بداخلهم “جرح مالي غائر” يصاحبهم منذ الطفولة ولا يمكن أن يلتئم بسهولة، خصوصا أولئك الذين ذاقوا طعم الحرمان والفقر والخصاصة. وفي واقع الأمر يمكن أن تؤدي التجارب المالية والأوضاع التنافسية غير المستقرة والأزمات المالية للمجتمعات الحديثة، إلى جعل الناس أساتذة في التلاعب والمناورة والخداع والتجارة بشرف الناس وأعراضهم وأرواحهم، على الجانب الآخر، قد يصبح الأمر صعبا لفك الشفرة المتعلقة بمن هو صادق في تبني قضية أو شعار ما، ومن يتطلع فقط إلى الاستفادة المادية من تلك القضية، أما مسألة “ترك بصمة” في المجتمع أو “إحداث تغيير إيجابي” في قضايا سياسية واجتماعية وإنسانية، فهي مجرد عبارات وخطابات رنانة زائفة.

في المجتمعات الحديثة، كثيرا ما ننشغل بجمع المال ونغفل عن قصر الحياة وأن علينا أن نفكر بمصادر غير مادية للسعادة، تشمل العلاقات الإيجابية مع الناس، والقدرة على العمل في مهن ذات مغزى أخلاقي وإنساني، وكذلك مساعدة الآخرين، وفعل الخير مع القريب والبعيد، دون انتظار المقابل. لا شك أن الحياة ستمضي بنا سريعا، وهو أمر لا يضعه معظمنا في الحسبان، حتى يتسنى لهم تحقيق استفادة جيدة من وازع القيم والأخلاق، وكثيرا ما يغفلون عن الموت.

“إن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الأخلاق ومحامد الأفعال” كما نصحنا الإمام علي بن أبي طالب (رض).

18