الحكومة المصرية تتصالح مع مخالفي البناء لأغراض اقتصادية وسياسية

القاهرة - أفرجت الحكومة المصرية أخيرا عن قانون التصالح في مخالفات البناء وقدمته إلى مجلس النواب، حيث سيناقشه اليوم الأحد، بعد موافقة اللجان البرلمانية المختصة عليه، في محاولة لترضية الشارع المتذمر من بطء إجراءات التصالح مع المخالفين وترهيبهم بإزالة منازلهم، ومحاولة أخرى لجمع مبالغ مالية ضخمة لإنقاذ الاقتصاد المصري الذي يعاني أزمات باتت عصية على الحل.
ويرمي توقيت الإفراج عن قانون التصالح في المباني المخالفة إلى تحقيق أهداف سياسية مرتبطة بتهدئة الشارع قبل انتخابات الرئاسة مطلع ديسمبر المقبل، في ظل جدل متصاعد صاحب تهديدات الحكومة للمخالفين بأنها ستمضي في هدم المنازل التي تم بناؤها بالمخالفة على الأراضي الزراعية أو في مناطق غير مخططة للسكن.
واقتنعت الحكومة بأن الفئات المستهدفة من قرار التصالح لن تلتزم الصمت إذا ما نفّذت الأجهزة المحلية تهديداتها وقررت هدم المنازل، ما دفعها لتسريع وتيرة إنجاز القانون بتعديلاته الجديدة وتقديمه إلى البرلمان لمناقشته والمصادقة عليه قبل انتخابات الرئاسة، إذ ظل قانون التصالح مطلبا لطمأنة أصحاب البنايات المخالفة.
وأوحت نقاشات برلمانية لقانون التصالح بأن هناك إرادة سياسية لدى الحكومة لتقديم أكبر قدر من التسهيلات للمخالفين، طالما أنها ستنجح في جلب عوائد مالية ضخمة، تصل إلى مئات المليارات من الجنيهات، وهي تعاني أزمة اقتصادية مضطرة أمامها لتحريك تشريعات مطلوبة شعبيا، وتُمكّنها من جلب أموال ضخمة في زمن قصير.
وتتقبل شريحة كبيرة من المخالفين لتراخيص البناء أي اشتراطات تقرها الحكومة، نظير حصولهم على ما يفيد بأن منازلهم معترف بها من الدولة، ويصعب أن تتحرك الأجهزة الأمنية لهدمها في المستقبل، وهي حقيقة تدركها الحكومة وتتحرك على أساسها لوضع مبالغ مالية مرتفعة نظير الحصول على براءة من مخالفة البناء.
وتقرر أن تكون أسعار المتر الواحد عند التقدم للتصالح على البناية المخالفة من 50 جنيها وحتى 2500 جنيه (من 1.5 دولار إلى 120 دولارا) وهي مبالغ كبيرة مقارنة بالظروف المعيشية للأغلبية من المواطنين المخالفين لاشتراطات البناء، لاسيما وأن أغلبهم من المقيمين في مناطق شعبية وريفية، وحضرية أيضا، تكتظ بالعقارات ولا يجد المواطنون أماكن مرخصة للبناء عليها.
وصعّدت الحكومة المصرية نبرة التهديد للمخالفين في البناء عندما قررت قبل ثلاث سنوات أن تُلزمهم بالتصالح أو تهدم بيوتهم بشكل فوري، لكن غضب الشارع أجبرها على التراجع وقرّرت سحب القانون آنذاك والإعلان عن تعديله، ومن وقتها لم تبتّ الحكومة في نصوصه النهائية إلى أن أفرجت عنها قبل أيام.
ويرى معارضون أن مشكلة الحكومة عندما تحركت لإقرار قانون التصالح في مخالفات البناء فهي اختارت التوقيت الخاطئ اقتصاديا، لمطالبة المواطنين الذين يفتقرون إلى الحد الأدنى المطلوب دفعه من الأموال نظير النجاة بأنفسهم من التشريد وتعريض منازلهم للهدم، ما يعيد الصدام القديم مع الشارع عندما حاولت جمع أموال التصالح مع بدايات الأزمة الاقتصادية.
وتتحرك الحكومة مدعومة بشكل قوي من الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي سبق وتوعد بأنه على استعداد لإنزال الجيش لتنفيذ قرارات إزالة المباني المخالفة إذا تمسك أصحابها برفض التصالح ودفع قيمة المخالفات الموقعة عليهم، وهي لغة سيكون من الصعب إعادة استخدامها في الظروف الراهنة بسبب الانتخابات وحاجة الدولة إلى التفاف شعبي لمواجهة التهديدات المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ومن المتوقع أن تقدم الحكومة على توفير تسهيلات مضاعفة في السداد إذا ارتفع منسوب الغضب الجماهيري ضد غرامات التصالح، لأنها لا ترغب في أن يفضي التذمر المرتبط بالعقوبة المالية إلى توحد جماهيري ضدها من مختلف الفئات، قد تستثمره قوى وتيارات مناهضة للنظام في إثارة الشارع في توقيت سياسي دقيق.
واعتادت الأحزاب القريبة من السلطة في مثل هذه الظروف أن تُعلن عن دفع الغرامات المالية عن الفئات محدودة الدخل لتضمن لها عدم تعرضها لأيّ عقوبات، وهي نوعية من المساعدات التي تلجأ إلى قوى حزبية بعينها لتحقيق مكاسب سياسية تضمن لها زيادة الشعبية والتقارب مع الشارع وتجميل صورة الحكومة في نفس الوقت.
ومن بين الخيارات المقترحة للتسهيلات الحكومة أن يتم خفض قيمة الغرامات الموقعة على البنايات المخالفة لمن يسدد أموال التصالح دفعة واحدة، مع إمكانية السماح للبنوك الوطنية بتمويل غير القادرين على الدفع بفوائد رمزية على مدار عامين أو ثلاثة، شريطة أن تكون لدى المخالفين نية للتصالح مع الدولة مع النزول بتسعيرة المخالفة لقاطني المناطق الريفية إلى الحد الأدنى مراعاة لظروفهم والخوف من خسارتهم كقوة شعبية مساندة للنظام.
وأكد كريم العمدة الباحث في شؤون الاقتصاد السياسي لـ”العرب” أن فتح ملف التصالح حاليا مرتبط بأبعاد سياسية بحتة، وهو نفس ما كان يحدث خلال فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك بأن تشهد الفترة التي تسبق الانتخابات مرونة كبيرة في التشريعات التي تلامس القاعدة الجماهيرية العريضة، لأن ملف مخالفات البناء يهم الشريحة الأكبر في المجتمع.
♦ مشكلة الحكومة المصرية عندما تحركت لإقرار قانون التصالح في مخالفات البناء فهي اختارت التوقيت الخاطئ اقتصاديا
ومشكلة الحكومة وهي تعلن عن عقوبات مالية للمخالفين في البناء نظير التصالح مع الدولة، أنها تغافلت عن محاسبة الجهات الرسمية التي سهلت إجراءات بناء مساكن في مناطق غير مخططة للسكن، ووضعت قبضتها على رقاب أصحاب البنايات وساكنيها، وطالبتهم بتعويضات عاجلة، ما أحدث ردود فعل غاضبة كون الحكومة بدت وأنها تكيل بمكيالين.
وقال العمدة لـ”العرب” إن الحكومة لن تغامر في هذا التوقيت بالصدام مع الشارع في ملف التصالح، وستعمل على تقديم تسهيلات كبيرة حتى لا تتهم بتحصيل الجباية، لكن الأرقام المحددة للتصالح ليست مرتفعة مقارنة بالعائد الاقتصادي على صاحب البناية المخالفة بعد التصالح عليها، ومن المهم مواجهة الفساد الإداري وعدم تكرار البناء العشوائي مرة أخرى.
ويبلغ عدد المباني المخالفة في مصر قرابة مليوني منزل تقطنها نحو 10 ملايين أسرة من مختلف الطبقات، وهي شريحة كبيرة يصعب الدخول معها في مواجهة مباشرة والسيطرة عليها في حال قررت الاحتجاج ضد إزالة المباني المخالفة أو فرض رسوم مبالغ فيها للتصالح، ما يعزز فرضية التسهيلات التي يتحدث عنها بعض نواب البرلمان المقربين من السلطة.
وثمة ارتفاع في منسوب الغضب لدى كتلة حرجة من المصريين لم تعد تستطيع تحمل زيادة الأعباء المالية الواقعة عليها، ما يشكل معضلة للحكومة في جمع المبالغ المالية المطلوبة من التصالح، وهي التي اعتادت اللجوء إلى جيوب المواطنين وقت الأزمات الاقتصادية لمواجهة التحديات دون أن تتعامل بحنكة سياسية تجعل توجهاتها مقبولة لدى الشريحة الأكبر من الناس.
وحذر مراقبون من مغبة اللجوء إلى سياسة القبضة الحديدية لإجبار المواطنين على الدفع أو هدم المنازل، لأن الشريحة المستهدفة لن تصلح معها هذه الطريقة، فعندما يرى الناس منازلهم تهدم لأنهم عاجزون عن دفع الغرامة لن يخافوا المواجهة، ما يفرض على الحكومة مراعاة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية قبل أن يقفز خصومها على المشهد ويستغلون الأزمة سياسيا.