دور السينما الأوكرانية: ترفيه وحشد للقوى لمواصلة الحرب

صالات تعود إلى العمل رغم الدمار والغزو المستمر.
الجمعة 2023/11/17
الأفلام تنسي الأوكرانيين الواقع الصعب

لم تحبط الحرب المستمرة في أوكرانيا أصحاب دور السينما، رغم إلحاقها أضرارا كبيرا بالصالات، وإنما دفعتهم ليس لتوظيف مشاريعهم من أجل الترفيه فقط، بل من أجل حشد القوى لمواصلة الحرب، وتذكير الأوكرانيين بالصراع المستمر بينهم وبين الروس.

كييف - في زمن الحرب، تحولت الكثير من دور السينما الأوكرانية إلى فضاءات للترفيه وكذلك لحشد القوى لمواصلة الحرب، لتنفيس مخاوف المواطنين وضغوطهم، وتذكيرهم أيضا أنهم لا يزالون منذ أكثر من عام يواجهون حربا لا يعرف بعد متى تنتهي.

وتعرض دار السينما التي يديرها أولكسي شيفشينكو أفلاما عن الحرب بصفة يومية، والنبأ السار لسكان أوكرانيا هو أن أحداث الحرب تعرض على الشاشة الفضية، وليس في الحياة الواقعية. ولا يعني هذا أن الحرب لم يكن لها أثر على دار السينما، حيث يمكن للناظر أن يتبين وجود شقوق عميقة في سقفها، وأن يرى طبقة عازلة تنضح سائلة وكأنها جرح ينزف.

وتركت حرب روسيا ضد أوكرانيا، والتي تدور رحاها منذ فبراير 2022، آثارها على بلدة إبرين بشمال كييف، مثلها في ذلك مثل مناطق أخرى من هذه البلاد التي تعيش حالة من التعبئة العسكرية في مواجهة الغزو الروسي. وحيثما يوجه المرء بصره، يمكنه أن يرى في هذه البلدة الجدران المنهارة، والمباني التي دمرت، والأسوار المحطمة. وتتناثر حفر عميقة في الإسفلت، الذي يمتد مباشرة أمام دار سينما “بيرون”.

وقال شيفشينكو وهو يظهر مجموعة من الصور على هاتفه المحمول، إن الجنود دمروا المنطقة الأمامية للمبنى بكاملها، بعد أن ألقوا عليها القنابل اليدوية والألغام، في مارس الماضي. ولم يتبق سوى كمية من الأنقاض، من دار السينما الأخرى التابعة له، والتي تبعد عن الدار الأولى بمسافة ثلاثة كيلومترات فقط.

كان شيفشينكو أحضر، لتوه، عائلته إلى منطقة الحدود مع مولدوفا، بعد أن وقع الهجوم على داري العرض السينمائي، ولم يتم السماح لشيفشينكو (39 عاما) بمغادرة أوكرانيا بمقتضى اللوائح المطبقة فيها، والتي تحظر على الرجال الذين يمكنهم القتال، مغادرتها أثناء فترة الحرب.

◙ السينما في كييف تشهد نهضة جديدة، حيث أسهمت الحرب في ولادة تيار سينمائي جديد يهتم بالحرب وتثقيف الشعوب

وأشار مالك دار السينما إلى أنه شاهد دمار بلدة إبرين على شاشة التلفاز. وتعد دارا السينما التي يملكهما بالنسبة إليه نشاطا تجاريا لعائلته، حيث أدارت أمه واحدة منهما خلال فترة السبعينات من القرن الماضي. وامتلأ قلب شيفشينكو بحب السينما، من كثرة مشاهدة الأفلام، وهو شغف مستمر معه إلى يومنا هذا، ويقول إنه مولع بمشاهدة الأفلام الخيالية كثيرا، وهي المحببة بدرجة أكبر إلى قلبه.

وتتسم شخصية الرجل بالجدية والتحفظ البالغ، ونادرا ما تراه يضحك، وبعد أن ابتعد القتال عن أربين، عاد إلى البلدة ليرى انهيار مشروعه التجاري. ولكنه لم يستسلم، وبدأ في ترميم دار سينما بيرون، بملء الثقوب التي أحدثتها طلقات الرصاص.

وعادت عائلته بحلول فصل الصيف، وتعاون جميع أفرادها في تنظيف دار سينما بيرون وتجديدها، وأعيد افتتاحها ويرجع الفضل في ذلك، إلى الجهود المشتركة لشقيقته وأمه وابن أخيه وآخرين. كما دعمته الحكومة الألمانية بالمال، الذي مكنه من شراء شريحة لجهاز العرض الخاص بالدار، بتكلفة بلغت الآلاف من الدولارات، مما ساعد على إعادة تشغيل دار السينما.

ورغم أن الحرب الروسية على أوكرانيا لا زالت مستعرة، فإن سكان أوكرانيا منهمكون في إعادة بناء بلدهم، حيث يتم إعادة تشييد الوحدات السكنية، وإصلاح خطوط الكهرباء، وإعادة افتتاح المتاجر لتمارس نشاطها مرة أخرى. وكانت نحو عشرين دار سينما أغلقت مع بداية الحرب، فتحت أبوابها أيضا لتشكل ملجأ للسكان، ما يتيح لهم ليس فقط الهروب من واقعهم، بل من الغارات الجوية كذلك.

وسبق أن أوضحت تقارير أوكرانية أن رواد السينما في أوكرانيا يعودون إلى الصالات بشكل تدريجي. وتشكل مبيعات التذاكر حالياً نحو 30 في المئة مما كانت عليه قبل الحرب، في ما تشهد أعداد الرواد انخفاضاً في كل مرة يطال فيها صاروخ روسي إحدى المناطق المدنية.

◙ الفشار قبل مشاهدة الفيلم
◙ الفشار قبل مشاهدة الفيلم

ويعلق يوشن فلاسبارت، مفوض الحكومة الألمانية لإعادة الإعمار، ووزير الدولة للتنمية، على هذا التطور، ويصفه بالأمر المهم للغاية. ويضيف أنه لا يمكن للمرء أن ينتظر حتى نهاية الحرب، فثمة ضرورة لإعطاء السكان آفاقا اقتصادية ووظائف ونوعا من التشجيع. ويقول "علينا أن نبعث بهذه الرسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: مهما دمرت الجسور، مرارا وتكرارا، سنبنيها من جديد".

وتعهد فلاسبارت خلال زيارة إلى المنطقة مؤخرا، بتقديم معونة إضافية من ألمانيا، بقيمة 212 مليون دولار، ليصبح إجمالي المعونات الألمانية مليار دولار. ويقول إنه يتعين عليك إصلاح ما تم تدميره، حتى لو كان هناك احتمال لتدميره مرة أخرى.

ويعلق شيفشينكو بالقول إن هذا ما يخشاه الجميع، أي أن يعود الروس وهم يحملون الدمار. وجاء هذ التعليق منه وقد وقف عند آلة الفشار، ثم تلعثم فجأة ودخل في حالة من الصمت، فالحرب والروس من الموضوعات التي يصعب الخوض فيها.

◙ دار السينما التي يديرها أوليكسي شيفشينكو، تعرض 12 فيلما في اليوم يشاهدها نحو 500 متفرج أسبوعيا

وتعرض دار السينما التي يديرها شيفشينكو 12 فيلما في اليوم يشاهدها ما يصل إلى 500 متفرج أسبوعيا، وهو يقول إن هذا العدد لا يقترب مطلقا من عدد المتفرجين قبل الحرب، ولكن المهم هو خلق فرص للعمل ودفع ضرائب، وبذل ما في الإمكان لإعادة البناء، ويضيف “يجب علينا أن نتطلع للمستقبل، وأن نواصل الحياة”.

وأثناء حديثه، حضر فصل من تلاميذ المدارس، الذين دخلوا إلى قاعة العرض، حيث تردد صدى أحاديثهم المفعمة بالحماس، عبر بهو المدخل. ويبدأ الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين عشرة إلى 11 عاما، في مشاهدة فيلم للرسوم المتحركة والاستمتاع به.

وتقول المعلمة المرافقة للتلاميذ "اصطحبتهم إلى دار السينما، لأتيح لهم قدرا من الإلهاء، ينسيهم أحداث الحرب". وتؤكد المعلمة أن هذا الإلهاء مهم للأطفال والكبار على حد سواء، لأن الحياة يجب أن تستمر بأيّ شكل من الأشكال.

كما تؤكد أن مشاهدة الأفلام في دور السينما "تساعد على نسيان أن ثمة حربا دائرة في البلاد، ولكن في نفس الوقت، يذكرنا ذلك أيضا بأننا نعيش تحت الاحتلال، وأن الحرب لا زالت مستمرة"، وتؤكد أيضا أن مشاهدة الأفلام تساعد على حشد القوى لمواصلة القتال.

يذكر أن تاريخ السينما الأوكرانية يعود إلى أكثر من 100 عام. ففي سبتمبر عام 1896 في مدينة خاركيف صور المصور ألفريد فيديتسكي عدة أفلام وثائقية قصيرة، وفي ديسمبر نظّم أول عرض عام لفيلم في الإمبراطورية الروسية في دار أوبرا في خاركيف.

وتشهد السينما اليوم في كييف، نهضة جديدة، حيث أسهمت الحرب في ولادة تيار سينمائي جديد، يهتم بالحرب وتثقيف الشعوب بالفظائع التي تحدث على الأرض وبسرد القصص والحقائق.

14