رسالة المهزومين في تونس: محاولة إرباك الدولة من الداخل

قدّم الرئيس التونسي قيس سعيد خلال اجتماع جمعه بوزير الداخلية كمال الفقي إشارة بليغة على “محور الشر” ممن وصفهم بالمندسين الذين يتربصون بتونس ويستهدفون ضربها من الداخل، متوعدا بمحاسبة كل من يثبت تورطه في خيانة الدولة أو محاولة تركيعها والعودة بها إلى الوراء.
تحدّث الرئيس سعيد في محور تعليقه على حادثة فرار خمسة عناصر إرهابية توصف بالخطيرة من سجن المرناقية بلهجة فيها الكثير من التحدي والتحفيز بقوله “صامدون وثابتون وآن الأوان لنمرّ إلى مرحلة تطهير الإدارة من المندسين والخونة.. هناك من اندسوا وغيّروا أسماءهم..”، مضيفا حول المعركة التي تقودها تونس ضد من يوصفون بأعداء الدولة في الداخل “صامدون، ذاهبون إلى الأمام ولن نتراجع أبدا عمّا عاهدنا الله عليه وعاهدنا الشعب عليه..”.
هذه العملية الخطيرة، التي وإن أثارت ارتيابا واسعا وطرحت تساؤلات خطيرة حول الملف الأمني تحديدا وأهميته بالنسبة إلى تونس، فإنها مثلت “قرصة أذن” للمسؤولين في الجهاز الأمني ومختلف الأسلاك الناشطة بضرورة الحذر والتوقي من المخاطر التي تتهدد الدولة من الداخل.
تونس دولة تتسع للجميع ولا مكان فيها للخونة والمندسين أسوة بما قاله الشاعر الكبير أبوالقاسم الشابي ويجب أن يبقى راسخا بمخيلة كل تونسي غيور على بلاده التي "لا عاش في تونس من خانها.. ولا عاش من ليس من جندها"
الرسالة وصلت إلى أعلى هرم السلطة، وسرعان ما تلقفتها الأجهزة الأمنية وباشرت التقصي والتحقيق ونشر صور للفارين الذين تلاحقهم تهم خطيرة متعلقة بالإرهاب، فهم ضالعون في قضايا اغتيالات لعل أبرزها قضية الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، اللذين ذهب بعض المعلقين إلى أنه بهروب هؤلاء تم اغتيالهما مرتين.
الحادثة كشفت عن تواطؤ كبير الهدف منه زعزعة الاستقرار وضرب المسار الذي اتخذته الدولة في فتح الملفات الكبيرة، سواء ما تعلق منها بالأمن القومي أو العمليات الإرهابية التي عرفتها تونس إبان الثورة الشعبية في 2011، وغيرها الكثير من القضايا التي تعمل الحكومة التونسية على التحقيق فيها ومراجعة أبرز ملفاتها ومحاسبة المتورطين فيها.
من الطبيعي أن يكون أمر الخيانة متوقعا في مخيلة بعض الدوائر الموالية لتَركَةِ الأحزاب أو الماكينة القديمة التي تشتغل بثبات سواء إعلاميا (عبر منصات التواصل الاجتماعي) أو على مستوى آلتها النشيطة في الإدارة التونسية، لكن ما لا يفهمه المواطن العادي هو أن الخيانة جاءت من داخل مؤسسة السجون التي يفترض أن تكون محصنة ضد أيّ مزاعم يفترضها الخصوم ممن راهنوا على مواصلة السير عكس مسار الإصلاح وتطهير الدولة من بقايا المنظومة القديمة.
حركة النهضة التي أوردت الوقائع والتحقيقات اسمها في العديد من الملفات الحارقة والتي لا يزال التحقيق فيها جاريا، وأبرز قيادييها قيد الإيقاف، توجه لها أصابع الاتهام بكونها تقف وراء جميع التعيينات العشوائية في 2011 في العديد من المراكز القيادية، وهذه الواقعة ليست سوى نتاج لتلك الخيارات البراغماتية.
الرد على عملية تهريب العناصر الإرهابية لا يمكن أن يكون إلا بعمل مكثف وتدقيق في الأسماء التي تمت ترقيتها أو توظيفها في فترتي حكم الترويكا الأولى والثانية، وما تلاها من تعاقب لحكومات لم يسع أيّ منها لفتح هذا الملف أو حتى مجرد الإشارة إليه. وهو الأساس الذي تم تداوله خلال لقاء سعيد بوزير الداخلية وشدد عليه رئيس الجمهورية بكون “البعض من هؤلاء المتورطين غيّروا أسماءهم أو يحاولون التخفي وراء أسماء وهمية تظهر عند الطلب وعندما تقتضي الحاجة للتحرك وضرب الدولة من الداخل”.
ما لا يفهمه المواطن العادي هو أن الخيانة جاءت من داخل مؤسسة السجون التي يفترض أن تكون محصنة ضد أيّ مزاعم يفترضها الخصوم ممن راهنوا على مواصلة السير عكس مسار الإصلاح
أصعب الخيانات التي أربكت الدول على مرّ التاريخ هي تلك التي تأتي من الداخل، وهو معطى تدركه الدولة جيدا وتعمل جاهدة لمحاولة التقليص من ارتداداته على المستوى الأمني أو السياسي أو حتى الاقتصادي والاجتماعي.
في الأثناء لا عزاء أمام هؤلاء الحالمين بتغيير مجرى التاريخ والعودة بتونس إلى الوراء سوى الوقوف على الربوة وانتظار ما ستؤول إليه الأمور في قادم الأعوام، رغم إدراكهم للتحول البارز في مؤشر الأرقام التي تشي بأن هناك جهودا تبذل لتصحيح المسار ومحاولة النهوض بالدولة على مختلف الصعد.
تونس اليوم أمام مسار فاصل بين منطق الدولة التي عبرت عنها إرادة الإصلاح التي يقودها الرئيس سعيد ومختلف الأجهزة المجندة للدفاع عن البلاد وتخليصها من براثن الفساد والتغول، وبين منطق اللادولة الذي تحاول مجموعة مرتهنة إلى مصالحها الضيقة سلوكه لتعطيل كل نفس يروم تعديل الأوتار والتخلص من الإرث القديم والعودة بتونس إلى الوراء.
بين هذا المنطق وذاك تبقى آلية تطبيق القانون هي الفيصل لتحجيم وضرب كل المخططات التي يسعى واضعوها للنيل من تونس خدمة لأغراضهم الشخصية الضيقة. آن الأوان لتطبيق القانون ومحاسبة كل من يُكشف عن تورطه في جرائم الخيانة والتضليل والتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي وليس فقط أمنيا، المسألة تتعلق أيضا بقطاعات مؤثرة وتعمل بأجندات خارجية وخصوصا قطاع الإعلام الخاص بشقيه السمعي والبصري الذي يستوجب التدقيق والمراجعة.
تونس دولة تتسع للجميع ولا مكان فيها للخونة والمندسين أسوة بما قاله الشاعر الكبير أبوالقاسم الشابي ويجب أن يبقى راسخا بمخيلة كل تونسي غيور على بلاده التي “لا عاش في تونس من خانها.. ولا عاش من ليس من جندها”.