الشباب التونسيون والفرار الكبير

أوروبا رغم كل مبادراتها المتعلقة بالهجرة غير النظامية تتغافل عن التعامل بجدية مع موضوع هجرة الكفاءات وهي تعرف أن فكرة الهجرة تحولت في تونس إلى ما يشبه المتلازمة الجماعية.
الأربعاء 2023/11/01
الهجرة في تونس تحولت إلى متلازمة جماعية

ليس سرا أن أعدادا كبيرة من الناس في تونس تخامرهم فكرة الهجرة من البلاد. لكن أن تكتشف أن ما لا يقل عن 75 في المئة من التونسيين والتونسيات تحت سن الثلاثين يرغبون في مغادرة وطنهم لو استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فذلك يعطيك انطباعا بأن الأجيال الصاعدة في تونس تحيا على أمل الفرار الكبير.

هذه الأرقام أظهرها استطلاع رأي نشرت نتائجه مؤخرا مؤسسة سيجما كونساي إحدى أكبر مؤسسات سبر الآراء في البلاد.

يقول الكثيرون في تونس إن هاجس الهجرة يراود الجميع بلا تمييز، من الطفل اليافع إلى المسن المتقاعد. والصور الفوتوغرافية وأشرطة الفيديو المنتشرة على المنصات الاجتماعية حول حالات الهجرة غير النظامية تظهر فعلا أفواجا من أعمار مختلفة يحاولون عبور المتوسط على متن سفن متهالكة.

◙ الشباب التونسي منخرط بكل عفوية في العمل التطوعي ويقدم يد المساعدة إلى الهلال الأحمر التونسي على جمع المساعدات الإنسانية لإرسالها إلى الشعب الفلسطيني في غزة لا يمكنك الزعم بأنهم شباب مكبلون بالأنانية

ذلك صحيح بالتأكيد. لكن تلك الصور لا يمكنها أن ترسم الصورة الدقيقة التي ترسمها استطلاعات الرأي والتي تعكس نتائجها بشكل أفضل ما يجول في خاطر التونسيين من مواقف وتوجهات يمكن أن تحدد في نهاية المطاف مستقبل البلاد بأكملها.

واستطلاعات الرأي – وإن شحت في تونس خلال الفترة الأخيرة – فهي تبقى مرآة تفيد الجميع بمن فيهم أصحاب القرار. وبلاد بلا استطلاعات موثوقة هي بلاد بلا رادار.

الاستطلاع الأخير لسيجما كونساي يظهر أن النسبة الإجمالية للراغبين والراغبات في الهجرة من تونس تبلغ 50 في المئة من المستجوبين، أي نصف السكان.

ويظهر الاستطلاع أيضا أن الرغبة في الهجرة تزداد بقدر ما ينخفض سن الإنسان: لا تتجاوز نسبة الراغبين في مغادرة البلاد بين من هم فوق الستين عاما 8 في المئة. وترتفع هذه النسبة إلى 33 في المئة لمن أعمارهم بين 45 و59 عاما. وتبلغ 58 في المئة لمن سنهم بين 30 و44 سنة. وتتجاوز 75 في المئة لمن هم دون الثلاثين.

من الأكيد أن القنصليات الأوروبية غير غافلة عن الدروس العملية التي تسديها هذه المعطيات الديمغرافية عند دراستها لطلبات التأشيرة في تونس، ولكنني لا أخالها تحتاج إلى مبررات إضافية للمزيد من التضييق على منح التأشيرات لمواطني بلدان المغرب العربي.

السؤال المحير والأهم اليوم هو لماذا ترى هذه النسبة المرتفعة من التونسيين والتونسيات – من بين الفئات الشابة بالذات – مستقبلها خارج البلاد.

ليس هناك شك أن معظم الراغبين في الهجرة يحدوهم أساسا دافع اقتصادي يشمل البحث عن شغل أفضل وتحسين مستوى المعيشة، بالنسبة إلى من لهم وظائف، أو السعي للتخلص من الفقر والبطالة، بالنسبة إلى من هم يعيشون على هامش دورة الإنتاج.

هناك أيضا رغبة الطالب والباحث المتخصص في متابعة دراساته العليا في جامعات توفر له مستوى تعليميا أحسن وظروف بحث أفضل مما توفره له جامعات بلاده. أول ما يفاجأ به الطالب التونسي المغترب في كبرى جامعات العالم أن المكتبات هناك تبقى مفتوحة 24 ساعة في اليوم وكامل أيام الأسبوع. أما في بلاده فتخضع المكتبات للتوقيت الإداري وليس في مخزونها ما يلبّي حاجيات الباحث الطموح.

وهذه كلها دوافع مشروعة. كما هي اعتبارات معروفة ومتوقعة، البعض منها مرتبط بهنات هيكلية لم تتجاوزها أبدا البلاد والبعض الآخر مرتبط بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس حاليا.

وهذه الاعتبارات لا تكفي لوحدها لتفسر كيف يخبو الأمل بهذا الشكل لدى الشباب في تونس إلى حد يجعلهم ييأسون تماما أو يكاد من بناء مستقبلهم انطلاقا من بلادهم، ولكنها اعتبارات تجد اليوم صداها في تدفق الكفاءات التونسية الشابة نحو الخارج.

تقول الأرقام إن عدد الكفاءات التي تهاجر عن طريق المؤسسات الحكومية المختصة بلغ 3500 شخص سنة 2022 بزيادة تفوق 40 في المئة عن السنة التي سبقتها. ونسبة 36 في المئة منهم من الكوادر الطبية وشبه الطبية.

◙ عندما تصبح الهجرة إلى الخارج هي ما يشغل الشباب فلا يمكننا أن ننتظر منهم سوى العزوف عن الشأن العام

ولكن الخطر الحقيقي ليس في هذه الطائفة من الكوادر التي تغادر البلاد في إطار عقود تتوسط فيها الدولة وتكون عادة محدودة في الزمن.

المشكلة الجوهرية تكمن في مئات الأطباء والآلاف من المهندسين الذين يهاجرون خارج هذا الإطار الرسمي، وذلك في إطار عقود وتفاهمات يبرمونها مباشرة مع مشغلين أجانب يسعون لملء الشغورات التي يواجهونها في عدد من الاختصاصات.

وما يعمق المشكلة هو أن أوروبا، وهي المستفيد الأول من تدفق الكوادر التونسية، تواجه تهرما ديمغرافيا وتحتاج نظرا إلى ذلك إلى مئات الآلاف من الإطارات الشابة خلال السنوات القادمة. وفي هذا السياق من المتوقع أن تسعى بكل أنانية لاستقطاب الكفاءات التونسية بغض النظر عن كلفة تدريب هذه الكفاءات بالنسبة إلى بلادها وفي حاجة مجتمعهم إليهم، مما يعني أن المشكلة مرشحة للتفاقم.

وأوروبا رغم كل وفودها ومبادراتها المتعلقة بالهجرة غير النظامية تتغافل عن التعامل بجدية مع موضوع هجرة الكفاءات ما دام ذلك يخدم مصالحها.

وهي تعرف أن فكرة الهجرة تحولت في تونس إلى ما يشبه المتلازمة الجماعية التي تجعل الناس مقتنعين بأن الهروب هو الحل بالنسبة إلى كل فرد حتى ينجو بنفسه.

لكن التداعيات السلبية لهذه التدفقات نحو الخارج لا تخفى على أحد، باعتبار أن تيار الهجرة الجارف يهدد استقرار البلاد وتوازناتها الديمغرافية على المدى البعيد بشكل يفوق ما تجنيه اليوم من فوائد على غرار تخفيف الضغط عن سوق الشغل والزيادة في مستوى التحويلات بالعملة الصعبة.

هذا التيار يفرغ البلاد من كفاءاتها بشكل عشوائي يهدد الخدمات الطبية وعمل الشركات الحكومية والخاصة في المستقبل.

وأخطر من ذلك أنه يبعثر كل خطط الدولة، فأيّ خطط يمكن أن تُنجَز دون الكفاءات الشابة للبلاد؟

فشلت الحكومات على مدى سنوات وعقود في إقناع الشباب بأنها أعدت لهم ما يطمئنهم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.

كما فشلت في تفكيك جذور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتشابكة والتي جعلت الأجيال الصاعدة تشك في توفر الفرص لها في بلادها سواء اليوم أو غدا. ولكن جذور الفشل أوسع من ذلك..

فقد فشلت الأسرة أيضا في تنشئة أبنائها وبناتها على عدم الاستسلام بسرعة للرغبة الجامحة في القفز من المركب أول ما يلطمه الموج. فشلت في غرس قيم الكد والعمل كوسيلة لتحقيق أهدافهم في الحياة دون الاضطرار إلى مغادرة الوطن. كما أخفقت في لعب دورها التقليدي في منح أبنائها الثقة بأن العائلة الصغيرة أو الموسعة قادرة على مد يد المساعدة لهم عندما يحتاجونها أو أنها سوف توفر لهم حزام الأمان لمواجهة المصاعب التي قد تعترضهم.

◙ الصور الفوتوغرافية وأشرطة الفيديو المنتشرة على المنصات الاجتماعية حول حالات الهجرة غير النظامية تظهر فعلا أفواجا من أعمار مختلفة يحاولون عبور المتوسط على متن سفن متهالكة

تدريجيا عوّض الأقران والأصدقاء والمنصات الإلكترونية إلى حد كبير الأسرة دون أن يلعبوا دورها.

وفشلت المدرسة من ناحيتها في إقناع الشباب بأن التعليم مازال هو المدخل الأساسي للنجاح في الحياة. وبالنسبة إلى الكثيرين لم يعد هناك مصعد اجتماعي يمكن أن يعوّل عليه خريجو المدارس والجامعات. وليس هناك من يستطيع أن يزعم أن المدارس تؤدي المهمة المنوطة بعهدتها في الوقت الذي تلفظ فيه كل سنة حوالي مئة ألف تلميذ إلى الشارع بشكل مبكر.

وعندما تصبح الهجرة إلى الخارج هي ما يشغل الشباب فلا يمكننا أن ننتظر منهم سوى العزوف عن الشأن العام. وبالفعل فقد بقيت حالة العزوف هذه تلازمهم منذ سنوات طويلة بعد أن هجروا الأحزاب والمنظمات الوطنية وقرروا الانزواء في الفضاءات الافتراضية إلى حين يهجرون البلاد برمتها.

لكننا لمّا نرى الشباب التونسي منخرطين بكل عفوية في العمل التطوعي ويقدمون يد المساعدة إلى الهلال الأحمر التونسي على جمع المساعدات الإنسانية وتهيئتها للإرسال إلى الشعب الفلسطيني في غزة لا يمكنك الزعم بأنهم شباب مكبلون بالأنانية والبحث عن مصلحتهم الفردية فقط. بل هم شباب يحتاجون إلى قضايا تلهم وجدانهم.

شباب يحتاجون إلى سردية جديدة تمنحهم الأمل وتقنعهم بأنه لا يزال هناك في تونس ما يستحق أن يعاش.

يحتاجون إلى من يقنعهم بأن الحلم في بلادهم مازال ممكنا.

يحتاجون إلى قادة رأي يصوغون مثل هذه السردية البديلة بعد أن يقتنعوا هم أنفسهم أولا بأن إنقاذ الشباب من يأسهم قد يكون أم المعارك في تونس اليوم.

8