"شارع سقف السيل" قصص أردنية أبطالها هاربون من اللوحات

عمان - يرسم الكاتب الأردني محمد عارف مشة في مجموعته القصصية الأخيرة “شارع سقف السيل”، مشاهد درامية متحركة بقلم أقرب إلى ريشة الفنان، مقدما خمسا وعشرين قصة تتدفق روحا وحيوية، وتتناول الواقع بطريقة عبثية تتسم بالاحتراف والاقتدار.
نقرأ من المجموعة، الصادرة حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون”، “لا رغبة لمسعود بالكلام، لا رغبة له بالصمت، لا رغبة له في فعل أي شيء. حالة تنتابه كثيرا ولا يجد لها تفسيرا، ينثر الرجل الأوراق التي أمامه فتتطاير في الهواء بحركات بلهاء، يضحك لها الرجل وهو يقضم أظافر يده اليمنى بأسنانه. ينظر إلى المرآة التي أمامه فينفجر ضاحكا على هيئته حتى يسقط على ظهره من كثرة الضحك. نظر جواره فوجد الحذاء، صوب الحذاء باتجاه المرآة وقذفها به، فانهارت المرآة شظايا، ازدادت ضحكاته بعدد شظايا جسمه المنثور من المرآة”.
يكتب مشة قصصه مستعينا ببساطة التعبير وبالجمل القصيرة المكثفة والمركزة، كاشفا عن جرأة في التجريب وصنع أخيلة مغايرة، وكأنه يصر على بث الحياة في كل شيء حوله، وعلى نحو خاص اللوحات الفوتوغرافية التي جمدها فنانوها في إطارات خشبية.
إذ استدعى أكثر من بطل من جدار اللوحة وأشركهم في أحداث قصصه.
في قصة “ذات الرداء الأحمر” يقول الكاتب “حك صديقي في اللوحة أنفه بإصبعه، وقد راقته الفكرة”، فقد بنى لقطة حوارية كاملة بينه وبين ذلك الواقف في اللوحة المعلقة على جدار المقهى، حتى إن ذلك الرجل/ اللوحة رد عليه “أنا. كيف سأخرج من سجن اللوحة؟”، ويضيف “وأخرج لسانه استهزاء بي، ثم أضاف: بل اذهب أنت”، حتى إنه صور ضحكة ذلك الصديق/ اللوحة بأنها ضحكة عالية كاد يسمعها رجل الحراسة.
وفي قصة “عجوز المقهى” صنع مشة لقطة رشيقة، إذ يقول “أشارت البنت بإصبعها نحو امرأة الحزن في طرف اللوحة الجدارية، وأكملت: لا أريد أن أكون هذه المرأة التي نسيها الرسام في لوحته، بعد أن ثبتها على الحائط بمسمار كي لا تسقط عن الجدار، لتعتقد أنها في مأمن من غدر الزمان فماتت المرأة وبقي جسدها في اللوحة”.
وكأن اللوحات الجدارية هي عامل أساسي من عوامل تحريك الإبداع لدى الكاتب، إذ تضعه في تحديات عظيمة فتجعله يصنع مشاهد مغايرة تتفجر فيها سيماء الإبداع وكأنها مشاهد مرئية، لا فقرات مكتوبة.
وفي القصة نفسها، يستنطق الكاتب بطل اللوحة، كما في المقطع التالي “تلفع العجوز بمعطفه الرث على المقعد الحجري في اللوحة، زأرت الريح، تقصفت الأغصان، اهتزت اللوحة المعلقة على الجدار، أيقظ العجوز البنت، احتضن يدها الصغيرة، اللوحة لا تتسع لهما، فمزق إطار اللوحة الضيق، خرج من ضيق اللوحة، فكان ضجيج المقهى، وصوت الأغاني، وأصوات الغالبين، وأصوات المغلوبين، وصوت نادل المقهى، وقرقرة الأراجيل ودخانها.. حطم العجوز إطار اللوحة، نزلا وسارا معا باتجاه الخروج، فكان باب المقهى مغلقا، والكل يصرخ وحيدا. الضجيج يعلو، والمقهى صامت، والأبواب مغلقة، ولا أحد ينصت لضجيج الصمت، صمت الضجيج يعلو”.
اللوحات الجدارية هي عامل أساسي من عوامل تحريك الإبداع لدى الكاتب، إذ تضعه في تحديات عظيمة فتجعله يصنع مشاهد مغايرة تتفجر فيها سيماء الإبداع
تكشف المجموعة عن قاص يتقن العبث، ويقدم نصوصه بتتابعية درامية مرسومة ببراعة، ولقطات حوارية تضج بالحياة، محاولا أن يُسكنها على الورق إلى أن يأتي فنان آخر يحررها ويحولها إلى مشاهد حية مصورة بنفس سطورها الحوارية. إنها لقطات معدة للتمثيل دون حذف أو إضافة.
ورغم أن قصص المجموعة وأبطالها خياليون أغلبهم يأتي من اللوحات أو يصنع في خيال الكاتب على مرأى من القارئ، فإنها لبا تخلو من رمزيات وإشارات تربطها بشكل وثيق بالواقع المحيط بها. ورغم أنه كلما كان الخيال أخصب جاء العمل أخصب وأمتع، كما هو الحال في قصص المجموعة التي تدفع المتلقي إلى التخيل والحلم، فإنه مهما جنح الخيال يظل مشدودا إلى حوارات الناس وسلوكهم وعواطفهم وجرائمهم وعلاقاتهم وحياتهم اليومية.
يذكر أن الكاتب محمد عارف مشة يكتب في القصة القصيرة جدا منذ 1983، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، ونادي الرواد بمخيم حطين/ الزرقاء، كما رأس نادي الثقافة والإبداع في عمان (1992 – 1993). وصلت روايته “العمارة رقم 13” إلى القائمة الطويلة في جائزة كتارا ضمن الروايات غير المنشورة 2023. ومما صدر له في القصة “عصافير المساء تأتي سرا” (2019)، “شبابيك” (2017)، “بائعة الكبريت” (2008)، “الولد الذي غاب” (1995)، “همسة في زمن الضجيج” (1989)، “حبك قدري” (1984).