كم نحن خرافيون؟

ابتعد قليلا عن محيطك المعتاد، وانظر حولك من كل الجهات لتدرك أننا لا نزال تحت سيطرة الخرافات، بل نحن من يصنعها لنعيش في ظلها، وليعتاش منها اللصوص والنصابون. افتح شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وستتأكد من أن كل شيء حولنا تحركه الخرافة ويتحكم فيه الخرافيون.
كثيرا ما يحاول فلاسفة القانون إقناعنا بأن الحضارة الغربية المحكومة بالعقل والمنطق والقانون لا يمكن مقارنتها بما ينتجه العالم المتخلف والهمجي الذي لا يزال خاضعا لسلطة الخرافات. حاليا كل المؤشرات تؤكد العكس، فنحن نعيش زمن حكم الخرافة، وأحيانا نجد أنفسنا في مواجهة الخرافات التي تتصارع وتتقاتل في ما بينها رغم أن أغلبها ينطلق من جذور واحدة. في أحيان كثيرة، يبدو أن لا فرق أبدا بين بايدن أو ماكرون أو سوناك أو شولتس أو ميلوني، وبين أي إنسان آخر بسيط يؤمن بالجن ويخاف القطط السوداء ويعتقد أن عيون الأولياء الصالحين هي التي ترعاه.
الأغرب من ذلك أنه لا يزال بإمكان الخرافات أن تشكّل مسارات التاريخ والجغرافيا، وأن تتحكم في مصائر البشر، وأن تطوّع القانون الدولي لفائدتها، وأن تجلب كبار العالم للركوع بين يديها، إذ ورغم كل ما تحقق من تقدم على جميع الأصعدة وفي كل المجالات، يبقى للخرافة سلطانها، هذا إن لم تصبح أكثر انتشارا وأقوى تأثيرا، بعد أن استفادت من قدرات الإعلام ثم من ثورة الاتصالات، ووجدت من يعمل على نشرها لخدمة مشاريعه السياسية والثقافية والاقتصادية وطموحاته التوسعية وأهدافه الإستراتيجية، سواء كان مقتنعا بها فعلا، أم مقتنعا فقط بجدواها في تسيير القطيع نحو صناديق الاقتراع حيث يتم التصويت لمن يخضع أكثر من غيره لسلطة الخرافات.
عادة ما كنا نعتقد أن الخرافات مرتبطة بالشرق بمختلف درجاته من الأقصى إلى الأدنى مرورا بالأوسط، وبشعوبنا العربية والإسلامية التي تقاد بالتراث الملغوم وبقايا الأساطير والكتب الصفراء والتمائم والدجل والشعوذة وتزييف الحقائق واستغلال العواطف الهشة، لكن الحقيقة تقول إن خرافات الشرق تنعكس على الغرب فتجد صدى لديه، وإن الغرب مهما تقدم وتطور وحقق من المنجزات العلمية والتكنولوجية، فإن جزءا مهما من عقله يبقى أسيرا لخرافات الشرق وخاصة منها الدينية والتاريخية والسياسية.
ارتبطت الخرافات السياسية دائما بامتيازات السلطة والصراع على الحكم وطالما كانت حقّا حصريا للأباطرة والملوك، فاصطنعوا منها العصمة وأوصلوا بها أنفسهم إلى مرتبة الألوهية، ولا تزال آثارهم إلى اليوم تتحكم في جوانب مهمة من حياتنا المعاصرة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الخرافات الدينية التي ندفع ثمنها دماء وأمنا وراحة بال، والتي تتصادم في ما بينها فتفرز لنا حروبا لا تنتهي، وكراهية دائمة الصلاحية وغير قابلة للانقراض.
لا تزال دول وكيانات وأنظمة وحكومات تعيش على الخرافات ولا تتوانى في العمل على تأكيد صحتها، وتجد طبعا من يصدقها ويدعمها ويناضل في سبيلها، ومن يدوس على منجزات العقل البشري فقط ليبرر تناقضها مع العقل، وبدل أن ننظر إلى تلك الخرافات على أنها مجرد تراث إنساني، نجد أنفسنا نعيد صياغتها لرسم ملامح الحاضر والمستقبل.. ونجيّر كل أسلحة العصر وشعارات الديمقراطية والتنوير للقتل في سبيل الخرافة.. فكم نحن خرافيون؟