سمير عطاالله كاتب يجب أن نقرأه في الصباح

الصحافي والروائي اللبناني يشكل مدرسة في الكتابة الصحفية ولكنها كتابة تخونها الصفة التي تربطها بالصحافة التي شهدت تراجعا منذ أكثر من ثلاثين سنة.
الأحد 2023/10/29
وارث جيل من الكتاب الكبار

حين يصف نفسه بالسندباد فلأنه كذلك فعلا. مسافر زاده خيال الكتابة ورحلات الخيال وفي الاثنين كان يطوي خطواته على أرض الواقع كما لو أنها صفحات من مذكرات رجل آخر.

سمير عطاالله صحافي وروائي في الوقت نفسه. الكتابة الصحفية مكنته من الحكايات وفي المقابل فإن الكتابة الروائية مكنته من الإمساك برقبة الواقع. فهو يرى بعيون كثيرة ومن جهات مختلفة فلا يكتفي بالوصف بل يتذكر ولا يستعين بذاكرته إلا من أجل أن يصل إلى معنى ما يراه.

لا تنقطع أفكاره مثلما لا يستجيب لضغوط الزمن. يستل من التاريخ الخيوط التي تقود إلى جوهره ليُفهمنا أن للتاريخ مساحة تتخطى الزمن. فلا ماضي ولا حاضر ولا مستقبل بل هي دورة الأفلاك تعيد ما تراه مناسبا وتحذف ما لم يعد قابلا للحياة. كانت حياته ولا تزال مغامرة، نذر الجزء الأكبر منها للكتابة وللقارئ.

◙ من الصعب تصنيف كتابات سمير عطاالله ضمن جنس أدبي بعينه كانت سيرته الحياتية مرآة الكاتب الذي يسكنه
من الصعب تصنيف كتابات سمير عطاالله ضمن جنس أدبي بعينه كانت سيرته الحياتية مرآة الكاتب الذي يسكنه

يُقرأ في الصباح

يحرمني السفر الصباحي من قراءة عموده اليومي. فهو لا يُقرأ مساء. أبدأ صباحي به فيكون لذلك الصباح معنى متفائل. في سحر الكتابة يكمن ذلك المعنى الذي أنا على يقين من أن الكثيرين يسعدهم أن يمزجوه بمذاق نهارهم الجديد.

عطاالله من ذلك النوع من الكتاب الذين لا يمكن لقارئهم سوى أن يرى العالم من خلال عيونهم. فهو كاتب صادق ومعذب بصدقه ويعرف أن صدقه هو الدرس الأخلاقي الذي يملأ مائدته بطعام لم يمسه أحد من قبل. طازج وخفيف غير أنه مشبع ولذيذ.

يكتب بيسر. ذلك حكم مرتجل قد يكون خاطئا. المؤكد أنه يُقرأ بيسر. تلك صفة لا يتميز بها إلا قلة من الكتاب العرب ممَن يكتبون بعمق ولهم رؤاهم المعرفية الخاصة. ولأنه يكتب مقالا يوميا على الأقل فإن استمرار القراءة الممتعة لما يكتب يعني شيئا واحدا، له علاقة بالاحتراف ولكنه يجسد القدرة لدى عطاالله على تحويل الحياة بكل ما تحمله من تناقضات إلى مادة ممتعة للقراءة.

كاتب الجمل القصيرة

يتنقل سمير عطاالله بخفة الساحر بين الماضي والحاضر، الواقع وخياله، الشخصي والعمومي مثلما يفعل حين يمزج السياسة بالثقافة بالتاريخ بالاقتصاد، فيكون مقاله مهما قصر مليئا بالمعاني، ما ظهر وما خفي. وهو بعد كل ذلك يحلو له أن يتساءل مثلما يفعل الهواة. لعبة أجادها الكاتب بسبب موقف أخلاقي من القارئ رغبة منه في أن يكون القارئ مشاركا في الكتابة.

هناك مساحة فارغة يتركها عطاالله لكي يقوم القارئ بملئها بأفكاره وشعوره بالامتنان لكرمه.

وحين يكتب بلغة مفهومة، لا غموض فيها، فما ذلك إلا دليل على أنه يعرف كيف يدخل إلى موضوعاته ومتى ومن أين يخرج من المتاهة التي يصنعها مصطحبا معه القارئ. قد يقف ذلك وراء خبرته اللغوية التي جعلته قادرا على استعمال جمل قصيرة، هي أشبه بالدروب التي يقود بعضها إلى البعض الآخر. لا زحام ولا ثرثرة.

يقول “في الظاهر يبدو أن لا فرق. لكن الصراحة واجبك حيال الآخر، أما الوضوح فهو حقك اتجاه نفسك. وفي الإمكان أن نتحدث عن أي شيء بصراحة شديدة من دون أن نوضح ما لا نريد أن نوضح”.

ولد سمير عطاالله عام 1941 في قرية “بتدين النقش” بالجنوب اللبناني. سيرته المهنية تقول إنه بدأ العمل الصحفي مترجما ثم محررا في صحيفة “الأنوار” ومن ثم انتقل عام 1961 إلى صحيفة “النهار” البيروتية محررا ومراسلا في أوروبا والأمم المتحدة. ثم ترأس تحرير مجلتي “الصياد” في لندن و”الأسبوع العربي” كما عمل مديرا لتحرير صحيفة الأنباء الكويتية. منذ عام 1987 وهو يكتب عمودا يوميا في صحيفة “الشرق الأوسط” بلندن ومقالا في صحيفة “الرأي” كل خميس. أما في “النهار” فإنه يكتب مقالا كل أربعاء.

رسالته في الحياة

◙ عطاالله من ذلك النوع من الكتاب الذين لا يمكن لقارئهم سوى أن يرى العالم من خلال عيونهم
عطاالله من ذلك النوع من الكتاب الذين لا يمكن لقارئهم سوى أن يرى العالم من خلال عيونهم

قضى عطاالله أكثر من ربع قرن متنقلا بين فرنسا وكندا والولايات المتحدة قبل أن يعود إلى وطنه لبنان ويستقر هناك. لم يشغله العمل الصحفي عن التأليف الذي توزع بين أنواع أدبية مختلفة. فهو كاتب رواية وأيضا كاتب سيرة غير أن ذلك لم يمنعه من كسر الحدود بين الجغرافيا والتاريخ فيرسم خرائط لماضي ومستقبل السياسة في العالم والوطن العربي.

لقد انعكست شخصية عطاالله على كتاباته التي كانت مزيجا من الثقافة والسياسة وهو المزيج الذي شاء له أن يكون دائما ذا بعد معرفي. لقد انكب الرجل على توسيع خبرته بمعنى أن تكون الكتابة نافعة لمَن يقرأ. مهمة إنقاذية جعل منها عطاالله رسالته في الحياة.

أصدر في مجال الرواية “أوراق السندباد” و”يمنى” و”بائع الفستق” و”ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس” التي صدرت عام 2020.

أما في “أدب الرحلات” فقد أصدر “قافلة الحبر” و”ناس ومدن” و”مسافر بلا مينا” و”مسافات في أوطان الآخرين”. وفي السياسة أصدر “قليل من الجغرافيا، كثير من التاريخ” و”جنرالات الشرق” و”بومبيدو رئيسا لجمهورية ديغول” و”مذكرات روبرت كندي”.

هناك كتب أصدرها عن خبرته في عالم الكتابة كما جمع مقالاته في سلسلة من الكتب أسماها بـ”مقال الأربعاء”.

شكراً سمير عطاالله

من الصعب تصنيف كتابات سمير عطاالله ضمن جنس أدبي بعينه. كانت سيرته في الحياة هي مرآة الكاتب الذي يسكنه. غالبا ما يفلت من الشروط الجاهزة متبعا خطى رجل الحكاية الذي يعرف كيف يمكن أن يكون مسليا حتى في أصعب المواقف وأكثرها حرجا.

لا علاقة لذلك بالعمر.لقد نضج أسلوبه الكتابي في وقت مبكر من حياته. في كل الحوارات التي أجريت معه يكشف بتواضع عن أسماء الكتاب الذين تأثر بهم وكان يسعى إلى اللحاق بركبهم. ولم يفعل شيئا في حياته الأدبية إلا وكان ذا صلة بذلك المسعى. صحيح أنه كان للشعر تأثير عظيم على لغته غير أنه لا يخفي تأثره بصحافيين كبار، لا يزال ينظر إليهم باعتبارهم معلميه.

إن نظرنا إلى سمير عطاالله اليوم فإنه يشكل مدرسة في الكتابة الصحفية. ولكنها كتابة تخونها الصفة التي تربطها بالصحافة التي شهدت تراجعا منذ أكثر من ثلاثين سنة. من حسن قراء اليوم أنهم يتمتعون بقراءة مقال يومي لا ينتمي إلى الكتابات السريعة التي تُنسى مع السطر الأخير.

ما يكتبه سمير عطاالله لا يتخلل بين الأعصاب ويدفعها إلى الاضطراب فحسب، بل وأيضا يفتح أمام القارئ آفاقا للتفكير تشده إلى ما مضى من حياته وما هو في انتظاره من صفحات.

كلما انتهيت من قراءة مقال له أقول “شكرا سمير عطاالله”.

عطالله جمعته علاقات مع كبار الصحافيين (مع محمد حسنين هيكل)

 

8