فاروق حسني الوزير الذي تمكّن منه حب الجمال

وزير الثقافة السابق رسام دائما عاش حياته من أجل أن يكون كذلك لذلك سخّر الوظيفة في خدمة فكره التنويري.
الأحد 2023/10/22
ثوري في وزارته وأكثر في فنه

ليس المطلوب من أيّ وزير ثقافة مصري أو عربي أن يكون فاروق حسني. فالوزير الذي ترك إنجازات كبيرة تُذكّر به لا من خلال نهضته بالمؤسسات الرسمية الراعية للنشاط الثقافي في مصر فحسب، بل وأيضا من خلال مشاريع البناء والإعمار التي كان جزء منها مخصصا لصيانة القاهرة التاريخية وترميمها.

كان رجلا استثنائيا ومختلفا ولم يكن مجرد موظف ارتقى سلم الوظيفة ليصل إلى مرتبة عليا. كان خياله يتقدمه في كل لحظة من لحظات حياته.

الرسام والوزير معا

هل كان طموحه أن يكون وزيرا للثقافة؟ بالرغم من أن فاروق حسني كان ومنذ نعومة أظفاره، كما يُقال، رائدا في التبشير بالثقافة المصرية العريقة في روما وباريس، غير أنه ظل مشتبكا بشروط الحياة والتفكير التي يفرضها الفنان التجريبي الذي يقيم في أعماقه.

◙ ما تعلّمه حسني في باريس ترك أثرا عظيما في فنه وهو الأثر الذي تعامل معه بمصفاة ثقافته الشخصية الرفيعة
ما تعلّمه حسني في باريس ترك أثرا عظيما في فنه وهو الأثر الذي تعامل معه بمصفاة ثقافته الشخصية الرفيعة

 كان رساما دائما. عاش حياته من أجل أن يكون كذلك. لذلك سخّر الوظيفة في خدمة فكره التنويري. أما حين أصبح وزيرا للثقافة واستمر على ذلك 22 سنة فقد شعر أنه محظوظ ليحوّل درس حياته إلى مادة يتعلم منها الآخرون في المستقبل.

المفاجأة أن فاروق حسني الرسام كان هو نفسه فاروق حسني الوزير. لذلك فقد اشتبكت مسيرته الوظيفية بأفكار لم تكن من مادتها. كان الفنان يرسم خرائط لمدينة أحبها وصار عليه أن ينفّذها على الأرض.

 وبالرغم من أن حسني لا ينتمي من حيث المظهر إلى الحساسية الجمالية المصرية بسبب ما اكتسبه من لذائذ وهو يطلع على فنون الآخر الأوروبي بحكم إقامته الطويلة في أوروبا، غير أن مصر كانت تسكنه. وهو ما دفع به إلى أن يربط خلاصه الشخصي بمصير مصر.

كانت مصر في انتظاره بعد غياب ثروت عكاشة، العسكري وخريج السوربون الذي أصبح وزيرا للثقافة بين عامي 1958 و1962. من سنة 1987 إلى سنة 2011 كان حسني وزيرا للثقافة. في عصره مُحيت المسافة بين الحياة والثقافة. وهو ما يشهد له به الناس العاديون قبل المثقفين.

مَن يتجوّل في القاهرة القديمة لا بد أن يُصدم حين يسمع جمل الإطراء التي يرددها المصريون العاديون في حق الوزير الذي أعاد الحياة إلى الكثير من المباني التاريخية التي صارت مزارا للسائحين. اجترح ابن الإسكندرية معجزته في اتجاهات مختلفة. لذلك قيل عنه إنه أهم وزير للثقافة في تاريخ مصر.

عمل حسني على ترميم وتوسيع منشآت ثقافية وحضارية هي جزء مهمّ من نهضة مصر عبر العصور. فمن ترميم شارع المعز لدين الله وهو رئة القاهرة إلى بناء أكبر متحف للآثار في العالم وهو الذي افتتح بعد سنوات من استقالته، تمتد قائمة الإنجازات التي لا يمكن أن يتّسع لها مقال في صحيفة، ولكن لا بأس أن أذكر عددا منها مثل بناء مكتبة الإسكندرية وفتح مبنى جديد لدار الكتب والوثائق القومية بعد ترميم المبنى القديم وترميم المتحفين الإسلامي والقبطي وتوسيعهما.

عام 2005 حمّل حسني نفسه المسؤولية عن الحريق الذي نشب في مسرح قصر الثقافة ببني سويف، وقدّم استقالته إلى الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي رفضها. وفي تلك الخطوة عبر الفنان الوزير عن شجاعة ورقيّ وجرأة تكاد تكون مفقودة بين السياسيين في العالم العربي. والجدير ذكره هنا أن عصره شهد إقامة عشرات المسارح وافتتاحها في مختلف المحافظات المصرية.

لم يُلق به تقاعده من الوظيفة إلى النسيان. ذلك لأن الفنان المفرط في حداثته، صاحب الأسلوب الاختزالي العميق الذي أنتج رسوما تمتزج فيها المتعة بالفكر لم يستسلم للوظيفة التي لم تطفئ شعلة الإبداع في روحه. ظلّ حاضرا بفنه وأيضا من خلال المؤسسة الفنية التي تحمل اسمه.

في دورة حياته

◙ أعمال تؤكد فرادة الشخصية الفنية
أعمال تؤكد فرادة الشخصية الفنية

ولد فاروق عبدالعزيز حسني في الإسكندرية عام 1938. أنهى دراسة الديكور في جامعة الإسكندرية عام 1964. عمل لسنوات مديرا لقصر ثقافة الأنفوشي. بعدها سافر إلى باريس التي عاش فيها من 1971 إلى 1978، هناك عمل مديرا للمركز الثقافي المصري. بعد ذلك انتقل إلى روما ليعمل مديرا للأكاديمية المصرية هناك. عام 1987 استدعته الحكومة المصرية ليصبح وزيرا للثقافة.

بسبب حساسيته الجمالية المفرطة وميله إلى تحديث عالمه الفني فقد وجد في انتقاله إلى باريس فرصة للانتقال بفنّه إلى عالم انفتح من خلاله على التجريدية التي صارت ملعبه الذي فرض من خلاله شخصيته الفنية باعتباره واحدا من أهم الفنانين العرب في العصر الحديث.

ما تعلّمه حسني في باريس ترك أثرا عظيما في فنه وهو الأثر الذي تعامل معه بمصفاة ثقافته الشخصية الرفيعة. لقد وصل إلى مناطق عذراء في العلاقة بين عناصر الرسم. وهو ما جعله قادرا على التعامل مع حيوية مفرداته بروح حية. ما يميّز فاروق حسني أنه خلق هوية شخصية مختلفة تمام الاختلاف عن الهوية الفنية المصرية الجاهزة.  بهذا المعنى يكون قد صاغ أسلوبه الذي أطلقه عالميا.

قبل أن يكون فاروق حسني ثوريا راسخ الأهداف في وزارته كان كذلك بل وأكثر في فنّه. قد يُدهش المرء حين يلتقي حسني شخصيا ويرى رسومه على الطبيعة من أن هذا الرسام الغامض الذي اختزل الحياة كلها في خطوط ومساحات ملونة هو نفسه الوزير المنظم الذي افتتح دار الأوبرا وأنشأ 66 قصرا وبيتا للثقافة، وبنى 90 مكتبة في القرى كما أنشأ 19 متحفا للفن الحديث وأسس المشروع القومي للترجمة.

أليس من الطبيعي أن يكون رجل من ذلك النوع إشكاليا ومحل اختلاف؟

وجه آخر من وجوهه

◙ فاروق حسني رسام دائما عاش حياته من أجل أن يكون كذلك لذلك سخّر الوظيفة في خدمة فكره التنويري
فاروق حسني رسام دائما عاش حياته من أجل أن يكون كذلك لذلك سخّر الوظيفة في خدمة فكره التنويري

وبما أن مناسبة الحديث عن فاروق حسني هي إعلانه عن زيادة قيمة الجوائز التي تمنحها مؤسسته للفنانين ونقاد الفن الشباب، فلا بد من إلقاء نظرة على تلك المؤسسة الفنية التي تعتبر رائدة في ذلك المجال.

تأسست المؤسسة عام 2019، وهي “تهتم بالنشاط الثقافي والفني وجميع فروع لإبداع ومكونات الثقافة وفق مفهوم يؤكد أن الثقافة قادرة على استيعاب كل الممارسات الإبداعية للإنسان كما أنها قادرة على تنمية قدراته الخلاقة”. لذلك خصصت المؤسسة جوائز سنوية تمنح كل واحدة منها إلى فنان ناشئ كما أن هناك جائزة للنقد الفني إضافة إلى جائزة تُمنح لفنان مكرس.

هناك أيضا متحف خاص بالمؤسسة يضم أعمالا للفنان فاروق حسني إضافة إلى مقتنياته الشخصية، لوحات ومنحوتات لفنانين مصريين وعرب وعالميين مثل راغب عياد ومحمود مختار وآدم حنين ومحمود سعيد وحامد ندا وشيركيو وتابيس وآخرين.

من المؤكد أن وجود فاروق حسني على رأس مؤسسته الفنية وهو أمر فريد من نوعه في العالم العربي يضفي مزاجا ثقافيا معاصرا هو انعكاس لشخصية الفنان الذي قضّى جزءا من حياته خارج مصر وحين انتقل إليها أحضر العالم بوجهه الثقافي معه.

◙ التجريدية ملعب الفنان
التجريدية ملعب الفنان

 

8