سعد القرش يمنح كتابه حياة جديدة بين يدي محبّيه

كاتب مصري يؤمن بأن الرواية ليست حكايات وعِبرا.
السبت 2023/10/21
كاتب مهووس بالذاكرة الجماعية

الكتاب العرب الذين يصدرون كتبهم هنا وهناك اليوم كثيرو العدد، خاصة إذا ذهبنا إلى جنس الرواية الذي اقتحمه أغلبهم، بوعي أو من دونه، بينما تتحرك المنظومة التسويقية من خلال ترويج كل منهم لنفسه وكتابه عبر العلاقات الخاصة بالنقاد والصحافيين ووسائل التواصل وغيرها من أساليب يتحاشاها كل كاتب يحترم عمله ويعي قيمته كما هو حال الكاتب المصري سعد القرش.

مصطفى عبادة

القاهرة - يعطيك كتابه الجديد، أو روايته الجديدة، ولا يسألك عن رأيك أبدا، ولا يطلب أن تكتب. يمنح سعد القرش كتابه حياة جديدة بين يدي محبيه، حياة حرة لا تقيدها القراءة النفعية، أي تقرأ لكي تكتب، يحب سعد لكتابه أن يقرأ بحرية وفي الوقت الذي يناسب قارئه، وكل كتاب يخلق جوه ومناخه وأسباب قراءته، ينفصل عن الكتاب، ولا يتوقف عند حبه كأنه كتابه الأخير، يعطيه لأصدقائه، ويتفرغ لكتابه الجديد، أو لمشروع قراءة كبير. فسعد ليس من النوع اللحوح، ولا يبذل نفسه لناقد مهما علا شأنه.

لا يعترف سعد بأن يعمل الكاتب مندوب دعاية لنفسه، لا يعرف غير الكتابة رسالة، ولديه يقين بأنها ستصل إلى من يستحق، يكتب بأناة وهدوء، ولا يخلق حوله ضجيجا يترك للكتابة وحدها كل الضجيج، أو كما قال في مقدمة كتابه “في مديح الكتابة": "وفي كل جيل تصدر كتب، وتتعرض لظلم وتهميش وإقصاء، سهوا من دون قصده، أو عمدا بسبب الغيرة. والمجايلة حجاب بالطبع، لكن نسخا قليلة، أو نسخة واحدة على الأقل تنجو، لكي تكتمل الأسطورة، وتجاور أبطال أساطير نجوا من مذابح جماعية مدبرة وحروب وكوارث طبيعية أفنت الجميع وأبقت على الناجي لكي يروي الأسطورة ويصون الذاكرة الجماعية".

سعد القرش مهووس بالذاكرة الجماعية، ومسكون بالخوف من ضياع وقائع يرى أنها شكلت عصرا وأجيالا، فقام من قبل بتسجيل يوميات ثورة يناير يوما بيوم، خوفا من طمسها أو ضياعها وسط زيف كثير سوف يأتي، وقد أتى فعلا، لذلك يكتسب كتابه “الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير” أهمية بالغة لأنه حفظ أحداثا ووقائع وأشخاصا وأياما مجيدة وأبقاها حية تستطيع تلمّسها في أي وقت تشاء.

كذلك إن كتابه “سنة أولى إخوان” حفظ روحا وعاما مشتعلا بالتصريحات المستفزة والأخطار المتفجرة، وتظل مقدمته الذاتية عن تدين سعد نفسه، وروحه الممزقة درسا بليغا في البوح والأسى، وكيف يتشكل شاب جراء قراءات حرة، ربما لا يقصدها أو يقصد من ورائها انتماء، وجاء الكتاب في عز سطوة الإخوان وحماساتهم.

فلسفة السرد

◙ سعد القرش مسكون بالخوف من ضياع وقائع يرى أنها شكلت عصرا
◙ سعد القرش مسكون بالخوف من ضياع وقائع يرى أنها شكلت عصرا

أما عن ثلاثية أوزير، فقد كتب "كتبتُ عن جزأين منها في حينه ولا أريد أن أكرر ما كتب"، فقد صدر لسعد القرش في عام 2023 عملان مهمان هما رواية “2067”، وكتابه “في مديح الكتابة.. أربعون كتابا وكتاب.. قراءة في مؤلفات أطول عمرا من أصحابها”، وقد مرا بهدوء، وذهبت النسخ للمعنيين بالقراءة ولم يلهث سعد ليرى نتاج عمله في مرايا النقاد، حتى أن أحدا من أصدقاء سعد وهم كثر وبعضهم منتقد في الصحف لم يشر إلى الكتابين، ولو حتى إشارة عابرة.

أما رواية "2067" فقد عشت بعض أحداثها مع المؤلف وبعض فصولها كان قد حكاه لي في المسافة بين مبنى جريدة الأهرام، وميدان عبدالمنعم رياض، ونحن في طريقنا إلى شارع فيصل حيث نسكن، لكنني حين قرأت ما سمعته سابقا، وجدته أكثر طزاجة وأشد عمقا وجمالا، وجدت رواية يعرف صاحبها فلسفة السرد، وأن الروايات ليست مجرد حكايات تروى على لسان بطل أو مؤلف، الرواية غير الحكاية، الرواية تكتب وفق فلسفة في البناء والرؤية، وفق ما يرتجيه المؤلف من فكرته، وكيف يقول فكرته، بأي طريقة، بأي شكل، اختيار شكل الرواية وليس مضمونها هو الفارق بين الرواية والحكاية، بين الروائي، وبين صاحب الحكايات، فكلنا نملك حكايات كثيرة، ونظن أن حياتنا تستحق أن تحكى، ومع ذلك فلسنا كلنا روائيين أو كتابا.

"كانت مجنونة في لقائهما الأول في بيتها. أتاحت له وهي تصنع القهوة أن يتأملها بثيابها المختلفة، كان يظنها تستعصي على الضعف، فتتعالى على الضعف بإظهار الجدية، والإصرار على الجينز وتصارحه بنفورها من الرجال، وتقشعر كلما جاملها رجل بكلمة، أو بالغ في الإبقاء على يدها في المصافحة. ولا تتخيل أن يقربها رجل في الفراش أيا كانت صفته، ولن يكون إلا زوجا ولن تتزوج، وأكدت ذلك لأبيها بعد تعرضها في بلادها لهتك عرض وتلقيها علاجا نفسيا داوى آثار الجريمة ولم يصالحها على الرجال" هذا مقطع من رواية "2067" التي يمكنك أن تلمح فيها الخيط الرفيع بين العظمة والعذاب، بين الغضب والاتزان.

 إننا أمام كتابة قاسية تريد التقاط التاريخ الشخصي غير المؤرخ لأبطالها، ووضعهم تحت بؤرة الضوء رغم أنوفهم، كتابة منضبطة، ألزمت نفسها بالصرامة والدقة، تمتلئ بالتلميحات، وتمزيق اللحم والمشاعر، ويمكنك كذلك أن تلحظ الجمل المشدودة مثل قبضة غاضبة تلوح في وجه العالم، الجمل الشفافة والمتفجرة، التي تتدفق دون سدود كأنها برنامج صارم من التدافع النصي. كما يمكنك أن تتيقن أن المتعة البشرية قرين البؤس البشرى.

على أن أكثر ما برعت فيه الرواية هو الاحتفاء بالجانب الأنثوي من حيث هو قيمة خالدة، تتشكل في هيئة من دم ولحم، وتحمل معنى أعمق لكل وجود حقيقي، ولكل رعب حقيقي، الجميع والغون فيه والجميع خائفون منه، الجميع لديهم ذكريات سيئة أو جميلة معه، والجميع يتمنى أن تتجدد الذكرى.

وجه الكاتب الآخر

كتابة سعد القرش قاسية تريد التقاط التاريخ الشخصي غير المؤرخ لأبطالها ووضعهم تحت بؤرة الضوء رغم أنوفهم
◙ كتابة سعد القرش قاسية تريد التقاط التاريخ الشخصي غير المؤرخ لأبطالها ووضعهم تحت بؤرة الضوء رغم أنوفهم

على لسان امرأة في الرواية “جمال نتلقاه ونمنحه، من أين يأتي”، وإذا كانت البطلة “سونهام” تقيم حول نفسها الحدود، وتدرأ الأذى الذي يأتي من الرجال، فإن هذه البنت أيضا لديها تجربة أذى بفعل الحب، لكنها تغيرت مع شعورها بالأمان، أمانها هي الذي سيصبح رعب رشيد، ذلك أن رشيد يريد أن يكون صديقا، صديقا لكل شيء، وكل أحد، صديقا أكبر من الحياة، متساميا عليها، يقول كل الأشياء المظلمة والفظيعة التي نفكر فيها، ولكننا لا نقولها بصوت عال، يريد أن يكون ضميرنا الذي نخشاه، يريد أن يتحول إلى فكرة، وهو يعطيك مفتاح هذا الفهم منذ اللحظة الأولى في الرواية،

حيث يتعرف إلى الأشخاص بما يدل عليهم، فدخول "سونهام" بطلة الرواية لم يكن بشخصها، لم يكن اقتحاما، بل دخلت بما يدل عليها، بالأثر الباقي منها، برائحتها، برائحة عطرها، ليتحول ذلك الدخول الهادئ إلى منهج وجودها في الرواية كلها.

"تمهل ليتقصى عطرا أدار رأسه، واختار حصانا خشبيا يعلوه فارس"، بهذه الجملة وحدها، الجملة البسيطة، حدد الراوي ملامح بطلي العمل، وحول شخصيته الرئيسة إلى فكرة، تحاول الانسلاخ من اشتراطات اللحم والدم البشري، وستظل رحلة “سونهام” الفكرة على امتداد الرواية تلقى بظلالها على كل الشخصيات والأحداث “سونهام آخر ما خطر بباله أن تكون الكلمة اسما لسيدة، ابتسمت بوقار وقالت إن الكلمة هندية تعني زهرة، اسم زهرة أو وصفها، ربما تعني الفتاة الموهوبة المرحة".

أكثر ما برعت فيه الرواية هو الاحتفاء بالجانب الأنثوي من حيث هو قيمة خالدة، تتشكل في هيئة من دم ولحم
◙ أكثر ما برعت فيه الرواية هو الاحتفاء بالجانب الأنثوي من حيث هو قيمة خالدة، تتشكل في هيئة من دم ولحم

هكذا حدد وأطر الراوي بطلته، وأما بطله، فاختار حصانا خشبيا يعلوه فارس، في الرواية أبطال كثيرون وكلهم يطمحون إلى اكتمال بشريتهم للتسامي فوق اشتراطات الواقع، وما كلهم بمستطيع. يمكنني أن أحدثك عن الرواية وأجوائها ومناخاتها، يمكنني أن أفعل مثل بقية النقاد الذين لا يجدون سوى إعادة تفسير الحكاية وتلخيصها، والإشارة إلى القيم التي يريد الكاتب الحديث عنها، وكأنهم بذلك أتوا بما لم يستطعه الأوائل، والأكرم للرواية والروائي ألا يكتب مثل هؤلاء عنه أو عن روايته، لكنني أردت أن أقول إن سعد بهذه الرواية غادر عالما قديما، أوفاه حقه في ثلاثية أوزير، ربما يكون قد فعل ذلك في رواية "المايسترو" لكنني مع الأسف لم أقرأها.

رواية "2067" طمحت إلى شيء مغاير لم أتعوده في عالم سعد القديم، حيث اقترب سعد من جلده أكثر، اقترب من عرقه البشري، صار يحتك ويجرح طمأنينة الواقع بمباشرة أكثر، دون تلميح أو استعارة، دون مجاز كبير، أو أجواء من التاريخ، فالواقع صار من الفجاجة بحيث لا يحتاج سوى أن تغرس في قلبه سكين الكتابة فيفيض بأسراره ورؤاه، لا يحتاج سوى أن تكون مقتحما لا مؤدبا معه، فينكشف تحت يديك، وتنبثق من تفاصيله الرؤى الكبيرة والنبوءات المخيفة.

وأما الكتاب الثاني الذي صدر للقرش في عام 2023 “في مديح الكتابة”، فهو أيضا درس في احترام الذات، واحترام الآخرين، واحترام الكتابة الجميلة مهما كان كاتبها، كذلك احترام الكتب والمعرفة والتعامل معها بما يليق، دون استسهال، والحق أنني غبطته كثيرا على صبره في التعامل مع بعض المؤلفات التي تحتاج إلى جهد شاق في قراءتها وفهمها ووضعها في سياقها التاريخي والمعرفي، مثل بعض كتب التراث القديم.

في كتابه فارق سعد القراءات التقليدية المعتمدة لكتب التراث واعتبارها أيقونات مقدسة، دون فهم علاقتها بالواقع، ووقع في هذه الكتب على ما يتلامس مع واقعنا، متجاوزا الكليشيهات المعروفة عن ذلك التراث، الجدية نفسها، والصرامة ذاتها تلمسها مع كل كتاب قرأه سعد وكتب عنه، وفي هذا الكتاب “في مديح الكتاب” تعرف على وجه سعد الآخر، خارج الإبداع، وجه الكاتب المدقق الذي يعطي ما يظنه صحيحا حقه.

 

12