ساركوزي والرؤية المنشطرة لـ"الربيع العربي"

في كتاب له صدر منذ أسابيع قليلة في باريس بعنوان “زمن المعارك” عاد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي إلى أيام “الربيع العربي” برؤى تتأرجح بين الاعتراف بأوجه التقصير في السياسات الفرنسية خلال تلك الفترة ومحاولة التنصل من تبعاتها.
لا غرابة في أن يحاول رئيس دولة سابق تبرير المواقف التي اتخذها خلال فترة حكمه. فمذكرات الساسة لا تقدم أبدا صورة فوتوغرافية عن الأحداث التي عاشوها أو هم أثروا في مسارها. ومذكراتهم تحتوي بالتالي على الكثير من السياسة والقليل من لحظات الصدق والصراحة والإقرار بالخطأ.
وساركوزي في حديثه عما شهدته تونس ومصر وليبيا من أحداث سنة 2011 لا يشذ عن القاعدة، وإن كانت له رؤية منشطرة لـ”الربيع العربي” تأثرت إلى حد ما بما شهدته المنطقة من تطورات منذ ذلك التاريخ.
ويعترف الرئيس الفرنسي الأسبق بأنه لم يتوقع اندلاع الحركات الاحتجاجية التي أدت إلى سقوط نظام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. ويقول إنه “لم ينتبه في البداية لخطورة تلك الأحداث” مما جعل ردود فعله عليها “تأتي متأخرة”. وهو ينحي باللائمة على السفير الفرنسي لعدم تقديمه معلومات دقيقة في الإبان عن الأوضاع في تونس، مما شكل حسب قوله “فشلا” ذريعا للدبلوماسية الفرنسية اضطره إلى إنهاء مهام السفير والتضحية به “ككبش فداء”.
منذ صدور الكتاب تعرض موقف ساركوزي من النظام التونسي السابق إلى انتقادات، إذ اعتبر البعض أن هذا الموقف يعبر عن استعداد للقبول بالأنظمة السلطوية في المنطقة
ويركز الرئيس الفرنسي الأسبق على الصراعات السياسية في بلاده أثناء أحداث تونس ولا يتعمق كثيرا في جذور الفشل الدبلوماسي الفرنسي. وهو موضوع جوهري اليوم في وقت تشهد فيه مكانة فرنسا في القارة الأفريقية، بما فيها بلدان المغرب العربي، أزمات لا تنتهي. فأن تعجز بلاد مثل فرنسا بالرغم من شبكات صداقاتها السياسية الاقتصادية والثقافية التقليدية في تونس عن التنبؤ بأحداث مفصلية مثل تلك التي وقعت من ديسمبر 2010 إلى يناير 2011 مؤشر على تراجع أوسع لتأثير فرنسا وقدرتها على الإنصات إلى الشارع سواء في تونس أو في كامل المنطقة العربية والأفريقية.
وانتقد ساركوزي استعمال قوات الأمن التونسية للعنف المفرط في قمع المظاهرات، كما وصف سجل بن علي في مجال الحريات بأنه سجل “مقيت”. ولكنه دافع عن عدم تحمس بلاده في يناير 2011 لمساندة المحتجين في تونس. وبرر ذلك باعتقاده أن نظام بن علي حقق “تقدما كبيرا” في المجالات الاقتصادية والتربوية والثقافية وعلى صعيد حقوق المرأة. كما أشاد ساركوزي بتعاون الرئيس التونسي الأسبق مع البلدان الأوروبية في مقاومة الإرهاب و”بالتزامه الصادق بالعلمانية”.
ومن الاعتبارات الإضافية بالنسبة إلى ساركوزي كانت خشيته من استغلال المتطرفين الإسلاميين للأوضاع الجديدة. فهو يقول في كتابه “كنت أعتقد أن خطر الأنظمة السلطوية في المغرب العربي أقل من خطر الإسلاميين”.
وهذه المسوغات جعلت باريس، حسب قول ساركوزي، تنظر إلى بن علي على أنه “ليس مجرد دكتاتور” واختارت التريث.
ومنذ صدور الكتاب تعرض موقف ساركوزي من النظام التونسي السابق إلى انتقادات، إذ اعتبر البعض أن هذا الموقف يعبر عن استعداد للقبول بالأنظمة السلطوية في المنطقة ما دام وجودها يخدم مصالح أوروبا واختياراتها.
الرئيس الفرنسي الأسبق يركز على الصراعات السياسية في بلاده أثناء أحداث تونس ولا يتعمق كثيرا في جذور الفشل الدبلوماسي الفرنسي
ولكن مهما كانت المآخذ التي وجهت له، فقد سلط الرئيس الفرنسي الأسبق الضوء بدون مواربة على احترازات اليمين الفرنسي تجاه انتفاضات الشارع في تونس، وهي احترازات سرعان ما اضمحلت بعد أن طغى الترحيب السياسي والإعلامي بالتحولات الحاصلة على الساحة السياسية التونسية علي أي أصوات أخرى.
ويكشف ساركوزي في كتابه أن فشل فرنسا في توقع الأحداث في تونس جعلها أكثر حذرا عند متابعتها للمستجدات اللاحقة في مصر. وهو يقول “جاء رد فعلي متأخرا في تونس ولم أشأ أن أقترف نفس الخطأ في مصر”.
ولكنه يعترف بأن فرنسا واجهت صعوبة رغم ذلك في فهم ما يحدث في القاهرة بعدما “فقدت مرجعياتها” وشبكة “علاقاتها التقليدية” في خضم الأوضاع المضطربة في مصر.
نفس الالتباس تقريبا الذي ميز علاقة ساركوزي ببن علي طبع علاقته بالنظام المصري. ويقول إن “علاقة ثقة” كانت تربطه بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان مبارك، حسب وصف ساركوزي، متعلقا بعملية السلام مع إسرائيل ومصمما على مواجهة التطرف الإسلامي. كما كان مبارك “يحب فرنسا” ومن المؤشرات على ذلك أنه “كان يفضل الشركات الفرنسية على المجموعات الأميركية الكبرى”.
وفي المقابل لم يكن مبارك “ديمقراطيا بالمعنى الأوروبي للكلمة” كما أن نظامه “كان ينخره الفساد” وأصبحت المؤسسات المصرية في ظل حكمه منقطعة عن الشارع المصري.
ويقول ساركوزي إن الأحداث في مصر نبهته إلى خطورة التحولات الحاصلة وانعكاساتها المحتملة على استقرار المنطقة كلها، باعتبار أن مصر مثل “العملاق الذي ينبني على استقراره استقرار جانب كبير من العالم الإسلامي”. وكان ساركوزي في هذا الاطار منشغلا باتساع رقعة الاضطرابات نحو بلدان أخرى مثل الجزائر وسوريا واليمن.
وكتب في هذا الصدد “كنت حائرا أمام كل الحركات الاحتجاجية للشارع. ولم أكن أشاطر تماما ردود الفعل المتحمسة لوسائل الإعلام والملاحظين تجاهها. كان هؤلاء يرحبون برحيل المستبدين العلمانيين وكنت أنا أخشى في قرارة نفسي أن يحل محلهم مستبدون من نوع آخر، مستبدون إسلاميون”.
ساركوزي يكشف في كتابه أن فشل فرنسا في توقع الأحداث في تونس جعلها أكثر حذرا عند متابعتها للمستجدات اللاحقة في مصر
ولا تختلف مخاوف ساركوزي في بعض جوانبها كثيرا عن المخاوف الأوروبية الحالية تجاه الأوضاع على الضفة الجنوبية للمتوسط. وهو يقول مثلا إنه كان يخشى أن يؤدي فشل الآمال المعقودة على “حركات التحرر” السياسي في المنطقة إلى تزايد تدفق المهاجرين نحو أوروبا وزعزعة جهود الغرب في مجال مقاومة الإرهاب.
وفي نهاية التحليل يقول ساركوزي إنه لم يكن “يثق تماما” بالأنظمة الصاعدة في المنطقة. ولكنه في نفس الوقت لم يكن يستطيع الدفاع عن الأنظمة المطاح بها والتي “فقدت كل مصداقية في الشارع”.
لكن موقف ساركوزي المتحفظ تجاه أحداث “الربيع العربي” يتغير جذريا عند الحديث عن أحداث فبراير 2011 في ليبيا وما بعدها. ويختفي عنده كل تحفظ.
ويصف ساركوزي القذافي بـ”الدكتاتور المريض والمختل” والزعيم غريب الأطوار الذي تستحيل محاورته. ولا يقدم الرئيس الفرنسي الأسبق أي شيء جديد بخصوص علاقته بالزعيم الليبي بما فيها الملفات المثيرة للجدل والمعروضة على نظر القضاء الفرنسي. والرواية التي يقدمها ساركوزي بخصوص الأحداث في ليبيا تبريرية محضة. ويركز في سرديته على الجهود التي بذلها لتعبئة المجموعة الدولية ضد نظام القذافي وصولا إلى التدخل العسكري، بمصادقة مجلس الأمن في مارس/آذار 2011 على فرض منطقة حظر جوي والترخيص باستخدام القوة في ليبيا.
وهو يقول إن الإجماع الدولي حول التدخل العسكري ترسخ على ضوء معطيين أساسيين: نشوء معارضة ليبية “موحدة وذات مصداقية”، من جهة، وموافقة جامعة الدول العربية على التدخل، من جهة أخرى.
لا يغير كلام ساركوزي الكثير مما كان معروفا عن تاريخ المنطقة خلال سنة 2011. وهو لا يبدو مهتما بذلك في كتابه
ويفتخر ساركوزي بأن فرنسا لعبت دورا محوريا بمعية بريطانيا من أجل التصدي لتهديدات القذافي بضرب المتظاهرين في بنغازي والدفع إلى التحرك عسكريا ضده.
وليس هناك أي شك في الدور التحريضي لساركوزي خلال تلك الفترة. ويؤكد كان رودس أحد كبار مستشاري الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في كتاب له صدر في 2018 على الدور المحوري الذي لعبه ساركوزي في دفع الولايات المتحدة نحو الخيار العسكري في ليبيا وهو خيار لم تكن واشنطن متحمسة له في البداية.
ويصور ساركوزي الحرب في ليبيا على أنها معركة من أجل توق الشعب الليبي إلى الحرية والديمقراطية. ويدفع عن نفسه التهمة القائلة بأن سياسته في ليبيا أدت إلى حالة الفوضى التي لا تزال تعيشها البلاد إلى حد اليوم وإلى زعزعة الاستقرار في مالي.
ويصر ساركوزي على أن الأخطاء في ليبيا ارتكبها الآخرون. ويقول إن ليبيا استطاعت تنظيم انتخابات ناجحة في يوليو 2012 “ولكن الخطأ حصل في خريف 2012” (بعد فشله هو في الانتخابات الفرنسية) عندها تخلى الغرب حسب قوله عن ليبيا وعن “السلطات الديمقراطية الجديدة” فيها.
وفي سياق تبريره للحرب، يسعى ساركوزي بكل وضوح لتصفية حساباته مع غرمائه السياسيين، ولا يحاول تقديم تفسيرات مقنعة لما أدت إليه الحملة العسكرية في ليبيا من نتائج.
فهو ينتقد “تردد واشنطن” في مساندة التدخل في ليبيا مفسرا ذلك بما أسماه “نفسية أوباما الذي يريد فقط أن يفعل عكس ما فعله بوش، أي أن يكون الرئيس الذي ينهي الحروب وليس الذي يبدأها”.
كما يمتدح ساركوزي وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، واصفا إياها بأنها “مقدامة أكثر من أوباما وأكثر شجاعة منه”.

ولا يتعرض الرئيس الفرنسي الأسبق لغياب أي إستراتيجية للغرب بالنسبة إلى فترة ما بعد الحرب من أجل منع سقوط ليبيا فريسة للجشع السياسي وللميليشيات المسلحة والمجموعات المتطرفة. بل هو يصور المسألة على أنها نتاج تقصير من قبل القيادات الأوروبية في ذلك الوقت.
ووجه سهام نقده لخلفه فرانسوا هولاند ولبقية الزعماء الأوروبيين الذين تركوا ليبيا، حسب قوله “تواجه مصيرها لوحدها”، مضيفا أنه بعد خروجه هو من السلطة لم “يبق هناك مسؤول سياسي (…) في مستوى الأحداث التاريخية التي كانت تدور في جوار أوروبا المتوسطية”.
ويتناقض كلامه مع رأي معظم الخبراء الذين يعزون حالة الفوضى والانقسام التي وقعت فيها ليبيا بداية من 2012 إلى غياب أي خطة للغرب غير الإطاحة بنظام القذافي. وبعدما حقق الناتو ذلك الهدف سارع الجميع للانسحاب خوفا من أن يعلقوا في “المستنقع الليبي”. وأوباما نفسه وصف الحرب في ليبيا بأنها “أكبر أخطائه” معترفا بأن الحلف الأطلسي فشل تماما في الإعداد لفترة ما بعد القذافي.
ولا يغير كلام ساركوزي الكثير مما كان معروفا عن تاريخ المنطقة خلال سنة 2011. وهو لا يبدو مهتما بذلك في كتابه. بل هو يحاول فقط تقديم رواية يستأثر فيها بالحكمة والشجاعة وينحي باللائمة على الآخرين على ما حصل من أخطاء. ومن النادر أن يكتب رئيس دولة سابق في مذكراته غير ذلك.