لا أحد في ليبيا يلتزم بالمواعيد

الانتخابات النزيهة لن تكون في مصلحة شبكات الفساد التي تغولت خلال السنوات الماضية وأصبحت الحاكم الفعلي في البلاد عبر تحالفها المتين مع المفروضين على مواقع القرار التنفيذي بإرادة المجتمع الدولي.
الثلاثاء 2023/10/10
استغلال الكارثة لتكريس السلطات

من جديد، تتحرك طاحونة الشيء المعتاد في ليبيا. هذه المرة من خلال تصديق مجلس النواب على قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الصادرين عن لجنة 6+6، والإعلان عن الانطلاق قريبا في تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة بدل الحكومة المنتهية ولايتها في طرابلس ستكون مهمتها إدارة شؤون البلاد والإشراف على الانتخابات.

بعد أيام أو أسابيع سيكتشف الليبيون أن الوضع باق على ما هو عليه، وأن من صدّق وعود عقيلة صالح كمن يطارد خيط دخان. فالأمر ليس بهذه السهولة، والمؤثرون الحقيقيون على المشهد سياسيا وأمنيا لا يرغبون في إعادة القرار للشعب كي يختار من يحكمه من خلال صناديق الاقتراع وفي سياق استحقاق حر ونزيه وتعددي.

لا أحد يثق في مواعيد النخبة السياسية الليبية، عندما انتخب أعضاء مؤتمر الحوار الوطني في فبراير 2021 سلطات تنفيذية جديدة بدلا من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، كان هناك التزام واضح من المترشحين ومن المجتمع الدولي بأن تشهد البلاد تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في 25 ديسمبر من العام ذاته بالتزامن مع إحياء الذكرى السبعين للاستقلال وقيام الدولة الوطنية. خلال الفترة التي كان من المفترض أن تكون مخصصة للاستعداد للحدث، سعى الفرقاء السياسيون من مختلف مواقعهم لعرقلة الاستحقاق والدفع به إلى أجل غير مسمى. ثم كان نفس الشيء عندما تم الإعلان عن تنظيم الانتخابات في العام الجاري 2023.

النخب السياسية الممسكة بزمام الحكم في ليبيا لا يمكن أن تتخلى طواعية عن الحكم والامتيازات التي تتمتع بها، وهي لا تختلف في ذلك عن أمراء الحرب وقادة الميليشيات

أثبتت الأحداث أن النخب السياسية الممسكة بزمام الحكم في ليبيا لا يمكن أن تتخلى طواعية لا عن الحكم ولا عن الامتيازات التي تتمتع بها عن طريقه، وهي لا تختلف في ذلك عن أمراء الحرب وقادة الميليشيات المسيطرين على الأرض، والذين لا يزالون بدورهم يلاعبون السياسيين ويبتزون السلطات التنفيذية في سبيل فرض خياراتهم التي تتنافى مع أسس الدولة المدنية وثوابت البناء الديمقراطي الحديث.

عندما وافق مجلس النواب مؤخرا على القانونين الخاصين بالاستحقاقين الرئاسي والتشريعي، اعتقد بعض المتفائلين أن الوقت حان لتجاوز جميع العراقيل والانطلاق في تنظيم الانتخابات التي ستنهي الفترات الانتقالية وتتجه بالبلاد نحو سلطات تشريعية وتنفيذية دائمة، وقادرة على بسط نفوذها على مختلف أرجاء البلاد. في المقابل هناك حقائق جوهرية على الأرض، من أهمها أن الانتخابات الحرة النزيهة لن تكون في مصلحة شبكات الفساد التي تغولت خلال السنوات الماضية وأصبحت الحاكم الفعلي في البلاد عبر تحالفها المتين مع المفروضين على مواقع القرار التنفيذي بإرادة المجتمع الدولي، ولا في مصلحة الجماعات المسلحة والميليشيات التي اتخذت شكل مؤسسات عائلية وشركات خفية الاسم وتحولت إلى أسس تنبني عليها اقتصادات محلية في الكثير من المناطق، سواء بالاعتماد على تهريب الوقود والسلع التموينية أو الاتجار بالبشر أو تجارة العملة أو غيرها من مصادر الكسب غير المشروع قانونا والمباح والمتاح في ظل الواقع الفوضوي.

عندما أعلن عن تصديق مجلس النواب المنعقد في بنغازي على قوانين 6+6، شهدت صالونات السياسيين في طرابلس الكثير من الضحك والقهقهات، وضجت الهواتف النقالة بالتعاليق الساخرة، ومن الطبيعي أنه لم يصدر أي موقف داعم أو مساند سواء من قبل رئيس المجلس الرئاسي أو رئيس مجلس الدولة أو رئيس مجلس الوزراء. حتى المبعوث الأممي تعامل مع الحدث كأنه لم يكن، واكتفى خلال لقائه في الدوحة بوزير الدولة في وزارة الخارجية القطرية، محمد بن عبدالعزيز الخليفي، بالدعوة “إلى وحدة الصف والهدف والتوصل إلى اتفاق سياسي بشأن الانتخابات لإعادة توحيد المؤسسات الليبية” بما يشير، وبوضوح كامل، إلى ضرورة البحث عن اتفاق سياسي جديد سيحتاج بدوره إلى عام أو عامين.

من الصعب الحديث عن حل قريب للأزمة المستدامة في ليبيا، ولا عن موعد يمكن الاعتماد عليه في تحديد أجل أخير للفوضى، فالمواعيد والتوقيتات تحولت إلى نكات سمجة

لا شك أن المبعوثين الأمميين الذين تداولوا على العمل في ليبيا منذ العام 2011 يدركون أكثر من غيرهم حقيقة ما يدور في البلد العربي الثري بشمال أفريقيا، سواء من حيث التلاعب بثروات الشعب ونهب المال العام، أو بعقد الصفقات المشبوهة من وراء الستار، أو بخيانة الوطن وبيع مصالحه في أسواق التبعية للقوى العظمى، أو بعرقلة الحلول السياسية والدفع بالخيارات الدموية كلما لاحت بوادر ضوء في آخر النفق. وهم على كل حال ليسوا بعيدين عن ذلك الواقع، ويمكن اعتبارهم جزءا منه، لاسيما أن الليبيين نجحوا في تدجينهم وفي تحويلهم إلى جزء من الأزمة بدل أن يكونوا جزءا من الحل، وإلى أدوات لإبقاء الوضع على حاله. طالما هناك إنتاج وتصدير يومي للنفط وإيرادات تصل إلى مصرف ليبيا المركزي وتوافقات، بعضها سري وبعضها الآخر علني، على تقاسم السلطة والثروة بين الفرقاء الأساسيين فإن الانتخابات غير ضرورية والحل السياسي الشامل يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى.

عندما شهدت ليبيا فاجعة درنة في العاشر من سبتمبر الماضي، والتي أدت إلى خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة، من بينها آلاف من الموتى والمفقودين، اعتقد بعض المراقبين أن أصحاب القرار من ديناصورات السياسة سيتعظون، وأن الفرقاء السياسيين سيجتمعون على رأي واحد للخروج بالبلاد من ظروفها المأساوية، وأن كبار المسؤولين سيتحملون مسؤولياتهم وسيستقيلون من مناصبهم احتراما لدماء الضحايا ودموع الأيتام والثكالى ولخسائر الوطن التي لا تعوض. الحقيقة أن البعض سعى لاستغلال تلك الفاجعة لكسب المزيد من المال من خلال نهب المساعدات وما سيتم رصده لإعادة الإعمار، ولتكريس سلطته أكثر عبر تقديم نفسه كزعيم منقذ سيلاحق من تورطوا في الفساد الذي كان وراء انهيار السدّين الرئيسيين بدرنة، وهو يقصد طبعا صغار الموظفين وليس أصحاب القرار الأصلي ممن ينامون على مصالحهم وعندما يصحون على كوارث الوطن يورطون غيرهم فيها ويواصلون عبثهم فخورين بما فعلت أياديهم من نهب واستبداد ودمار وتخريب ممنهج للدولة والمجتمع.

من الصعب الحديث عن حل قريب للأزمة المستدامة في ليبيا، ولا عن موعد يمكن الاعتماد عليه في تحديد أجل أخير للفوضى، فالمواعيد والتوقيتات تحولت إلى نكات سمجة، وكل ما يجري الحديث عنه من قبل المسؤولين المحليين أو المبعوثين الأمميين هدفه ملء الفراغات وتبرير صرف المزيد من الأموال، والاستمرار في سياسة ترسيخ الوهم برعاية القوى الكبرى وخاصة الغربية منها التي لا تريد لليبيا حرية ولا ديمقراطية ولا انتخابات تعددية، وإنما تدعم بقاءها تحت سلطة فاسدين هم بالتأكيد أكثر استعدادا من غيرهم لتنفيذ الأوامر وركوب التبعية بما يحقق مصالح هذا الطرف أو ذاك.

8