الباحث السوري منذر الحايك: علينا فتح ملفات المذاهب السرية التي تتكتم على معتقداتها

قوانين مجتمع الميم تتعارض مع كل الشرائع والقيم الإنسانية السويّة.
الأحد 2023/10/08
علينا فتح ملفات التراث الديني لكل الأديان والطوائف

تعيش مختلف المجتمعات البشرية اليوم على وقع التعصب الذي عشش في مختلف الأديان والأيديولوجيات، وهو ما يدعو إلى وقفة حاسمة لفهم جذوره وتجنب نتائجه الكارثية. لكن بدل السير نحو تفكيك هذه الظواهر نجد هناك من يسعى إلى إلصاقها بدين دون آخر، فصار الإسلام مثلا رمزا للإرهاب، وخلق بذلك تيارات متعصبة تقابلها تيارات متعصبة أخرى. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الباحث والأكاديمي السوري منذر الحايك حول هذه الظواهر وغيرها من آرائه.

منذر الحايك كاتب ومؤرّخ سوري، من مواليد حمص 1944، تمكن من أن يخط مسيرة بحثية قل نظيرها كما وكيفا في حفرياته التاريخية التي استقى مناهجها من مساره الأكاديمي، فقد حصل على الإجازة في التاريخ من جامعة دمشق وشهادة الماجستير والدكتوراه من الجامعة اللبنانية في العام 1978 حول تاريخ العرب والإسلام، وهو يعمل أستاذا في مادة التاريخ في كلية الآداب جامعة البعث حمص.

الحايك صاحب مشروع ثقافي كبير، كان في البداية مهتما بدراسة العلاقات الدولية فرسالته للدكتوراه كانت بعنوان “العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية”، وقد أعد بعدها سلسلة من أربعة كتب عن العلاقات الدولية في العصور الوسطى ثم أخذ اهتمامه يتوسع بدراسات الأديان حيث بدأ من الهند مع كتب عن الهندوسية والجانتية والبوذية ثم الزردشتية وبعدها أصدر كتابا عن البهائية.

كما قدم عددا من الدراسات التاريخية والتراثية مثل “العصر الأيوبي” و”نهاية الدولة العثمانية” و”أبوفراس الحمداني”، ومشروعه الحالي عن علم الأديان المقارن ويصدر تباعا في سلسلة بعنوان سلسلة كتب مقدسة.

منهج البحث

واجبنا اليوم نشر الوعي بحقيقة الأديان، وبأنها كلها من مصدر واحد، وأن غايتها واحدة وهي الارتقاء بالإنسان

العرب: ما هي مناهج دراسة النصوص المقدسة؟ وهل هي مختلفة عن دراسة النصوص التاريخية؟ وما هي آلية إنجازها؟

منذر الحايك: لدينا الآن مناهج متعددة لدراسة النصوص المقدسة، منها: منهج تاريخ الأديان، ومنهج مقارنة الأديان، ومناهج الدراسات اللاهوتية والعقدية وغيرها. وما اختلاف كل منها عن الآخر إلا لاختلاف أهداف دراسة النص المقدس.

وتختلف آلية دراسة النصوص المقدسة عن دراسة النصوص التاريخية اختلافا كبيرا، فبينما يتاح للباحث التاريخي حرية كبيرة في التعامل مع النص المدون للحدث التاريخي، فيقوم بتشريحه ونقده ومناقشة حقيقته، ويمكن أحيانا أن يوظف النص وفق هواه، لا يمتلك الباحث تجاه النصوص المقدسة هذه الحرية، بل هو ملزم بأن يتعامل مع النص كمادة علمية بحتة، وبحيادية تامة.

وفق المنهج علم الأديان المقارن لا يهتم الباحث فيه بصحة المعتقدات الدينية أو عدمها، بل ينصب تركيزه على العلاقات القائمة بين الأديان، من خلال تبادل الأفكار والمعتقدات والطقوس فيما بينها، ليتمكن بذلك من كشف المؤتلف أو المختلف بين هذه الأديان، وإلى أي مدى بلغ تأثر أو تأثير كل منها بالآخر.

العرب: هل يبدأ عندك البحث من الشك أو الفضول؟

ي

منذر الحايك: نادرا ما أشرع ببحث نتيجة الشك بفكرة، أو الفضول لدراسة موضوع ما، ولكن غالبا ما تلح عليّ الفكرة فأندفع وراءها. أو يستجد أمر يتعلق بالفكر الديني على الساحة الثقافية، كأن يتم تداول أفكار مغلوطة، وخاصة أننا في زمن يكتب فيه وينشر في وسائل التواصل كل من هب ودب، والغريب أن الفكرة الخاطئة غالبا ما تنتشر ويتم تداولها مئات أو آلاف المرات.

في بداية البحث عندما تبدأ الكتابة قد تكون الأفكار غائمة أحيانا، والبعض منها لا يكتمل أو يتم استبعاده، ولكن في الكثير من المرات يشعر الباحث بأهمية بحثه، بل بضرورته لتوضيح فكرة مفصلية، أو لإزالة التباس يثير الشقاق، فيبدأ مشواره الطويل مع ما تمده به المراجع والمصادر، ومع مناقشته للآراء المختلفة والمتناقضة أحيانا، وهذا المشوار في أبسط حالاته يستغرق عاما أو يزيد.

العرب: إلى أي حد تبقي على قداسة النص عندما تخضعه للتشريح أو الدراسة، أو أنك ترفع عنه القداسة بالكامل؟

منذر الحايك: من شروط الأمانة العلمية، ومن أولوياتي في العمل، الحفاظ على حرفية النص التاريخي، ولكن الأمر يكون أشد التزاما مع النصوص المقدسة التي لا يجوز المس بأي حرف منها، والتي يجب إيرادها أو الاستشهاد بها حرفيا كما هي تماما، وهذا من بديهيات العمل بمنهجية علم الأديان المقارن.

ولكن هذا الحرص عليها من ناحية الشكل لا يمنع الباحث أبدا من تحليلها، وتبيان مدى تأثرها أو تأثيرها بغيرها من نصوص الأديان الأخرى. صحيح أنه لا يهتم بتقييمها لكنه يدرس مصادرها وامتداداتها عبر الزمان والمكان.

ابن عربي ودمشق

ابن عربي نادى بوحدة الأديان
ابن عربي نادى بوحدة الأديان

العرب: تقول عن ابن عربي “إن قول ابن عربي بوحدة الوجود هو الذي قاده إلى الاعتقاد بوحدة الأديان، لذلك نجده يقول: إن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله (فصوص الحكم، شرح القاشاني، 67)”، أجد أن هذا الأمر هنا يحتاج إلى المزيد من التوضيح؟

في الحقيقة بالنسبة إلى ابن عربي، أو لغيره ممن يتبع نهجه، فإن القول بوحدة الأديان هو جزء من معتقد وحدة الوجود. ومن المعروف بأن الشيخ محيي الدين تقوم فلسفته على نظرية وحدة الوجود، التي تقول بالتجلي الإلهي في الكون، وأنه لمعبود واحد، الذي هو الله، وأنه مهما عَبد الناس، فما يعبدون سوى الله، ومن أحب الله أحبه في كل شيء من تجلياته، لأنه يتجلى في كل شيء.

يقول في الفتوحات المكية “فإنه ما عبد من عبد، إلا بتخيل الألوهية فيه، ولولاها ما عبد، يقول تعالى ‘وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه'”.

وقال أيضا “إن المعبود واحد، ولو اختلفت المعبودات. والتدين واحد، ولو اختلفت الأديان”. فأجاز بذلك التدين بأي دين، بل بكل دين، ويرى أنه من الخطأ أن يحصر الإنسان نفسه في دين واحد.

 يقول ابن عربي “أن تتقيد بعقد مخصوص، وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها، فإن الله أوسع من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول ‘فأينما تولوا فثم وجه الله'”.

العرب: في جزئية أخرى لك عن ابن عربي تقول “فأنا أرى: أن ابن عربي اختار دمشق، وسفح قاسيون بالذات، ليبث رسالته في الحب والتسامح من المكان الأنسب برأيه في ذلك العصر، وستثبت الأيام صحة وجهة نظره، فليس كمثل دمشق في التسامح”. ألا ترى أن الواقع ذهب عكس ذلك وأقصد هنا “التسامح” وما يحدث منذ عام 2011 إلى الآن في سوريا؟

منذر الحايك: الفارق بين حضور ابن عربي لدمشق عام 1223 وبيننا الآن عام 2023 هو 800 سنة بالتحديد، فلا يمكن القياس أو المقارنة بين زمنين تفصلهما ثمانية قرون. لكن مع ذلك الفارق لا تزال دمشق وأهلها، وسوريا والسوريون بشكل عام، كما كانوا في ذلك الوقت يتصفون بالكثير من التسامح الديني.

إن ما جرى ويجري الآن في سوريا هو فعل سياسي لا علاقة له بأي شكل من الأشكال بالدين أو بالمذاهب. فإضافة إلى تدمير سوريا وتشريد شعبها، فقد اتهمت زورا بأن ما جرى فيها كان حربا أهلية، وأحيانا أنه حرب طائفية، ولكن كل من يعرف سوريا، في الواقع وعلى الأرض، يدرك عدم صحة هذا الاتهام.

الجدل والتعصب

التعصب الديني مرض العصر
التعصب الديني مرض العصر

العرب: مع من تختلف فكريا ومع من تلتقي بالنسبة إلى المفكرين العرب؟

منذر الحايك: لا أختلف مع أحد من المفكرين بشكل كامل، ولا ألتقي مع أي منهم بشكل كامل. قد أختلف مع الكثير من المفكرين في جزئيات محددة، وقد ألتقي معهم في جزئيات أخرى. أعتقد أنه هكذا يجب أن يكون أي باحث يقوم بمشروع ثقافي تنويري.

وبالمناسبة ففي ميدان الثقافة كثيرا ما تظهر الخلافات الفكرية، وأنا أعد هذا الخلاف، طالما بقي ضمن حدود العلم وآداب الاختلاف، عملا خلاقا، فالجدل وطرح الفكرة ونقيضها هو السبيل الصحيح لارتقاء الفكر وتصحيح مساراته.

العرب: لماذا يتحول الشك إلى تهمة بالكفر في رأيك؟

منذر الحايك: إنه التعصب وعدم فهم حقيقة الأديان، فنحن نعيش اليوم فترة ازدهار للتعصب الديني الأعمى، وهذه الحالة تصيب الآن معظم الأديان والبلدان، ففي أميركا حيث يتسلط على مراكز قرارها اليمين المسيحي الجديد، الذي يريد إقامة دولة الرب. وفي إسرائيل يحكم تحالف غلاة المتعصبين اليهود، الذين يؤمنون بإبادة العرب. وحتى في الهند التي لم تعرف التعصب يوما، يشن متعصبو الهندوس، بموافقة حكومية ضمنية، حملات اضطهاد منظمة ضد المسلمين.

اليوم نعيش فترة ازدهار للتعصب الديني الأعمى وهذه الحالة تصيب الآن معظم الأديان والبلدان ويمكن التصدي لها

وفي بلاد الإسلام بلاد التسامح التاريخي، ينشط الآن دعاة الجهاد القادمين من ظلمات التاريخ، الذين لم يرفعوا سلاحا بوجه مستعمر أو غاصب أو عدو للأمة، بل هم يقتلون المسلمين ويخربون بلادهم باسم الإسلام.

العرب: ماهي الملفات التي يجب علينا فتحها في ما يخص الأديان ومناقشتها ومواجهة أي إشكالية تخصها؟

منذر الحايك: من أهم تلك الملفات، لمواجهة كل ما سبق من مظاهر التعصب الديني، هي ملفات التراث الديني لكل الأديان والطوائف، ليتم التعرف الواعي على حقيقتها. علينا فتح ملفات المذاهب السرية التي تتكتم على معتقداتها، لأنها بغموضها تكتسب عداء كل من حولها، فالإنسان عدو ما يجهل، والكثير من تلك المذاهب كان مصيرها الزوال لهذا السبب.

وفي هذا المجال كانت لي سلسلة كتب حول المذاهب الإسلامية، دعوت فيها أبناء تلك المذاهب إلى نشر تراثهم الفكري، ليتم التعرف على الحقيقة التي بالتأكيد كل طرف يمتلك جزءا منها.

 إن انغلاق بعض هذه المذاهب على نفسها سمح للآخرين بتداول أفكار غير صحيحة عنها وعن معتقداتها، وصلت إلى حد التكفير أحيانا. لذلك نشرت جزءا من تراثها لأعرف بها، بعيدا عما يشاع وعن روح العداء السائدة مسبقا.

الارتقاء بالإنسان

ي

العرب: هل يقاس الفكر الإسلامي الآن خارج السياق التاريخي؟ وما السبب؟

منذر الحايك: لا يمكن للإسلام، منذ أن بعث محمد بن عبدالله وحتى يرث الله الأرض، أن يكون خارج السياق التاريخي الفاعل. لكن ما هو خارج السياق التاريخي من الإسلام هو التراث الإسلامي الشعبي المترهل بأفكار الجهل، وما دس فيه من أفكار غريبة كالإسرائيليات وغيرها، والذي لم يعد مقبولا في عالم اليوم الذي يشهد طفرات من التقدم العلمي الهائل.

أما الإسلام الحقيقي المتمثل بالكتاب والسنة فهو كيان عقائدي أبدي، لا يمكن أن يقاس خارج السياق التاريخي.

العرب: الأفكار التي طرحت من خلال بحوث ودراسات منشورة لم تحقق أي تحولات في المجتمعات العربية؟

منذر الحايك: من الخطأ إصدار هكذا قرار بأنها لم تحقق أي تحولات، فإنه من المبكر جدا رصد هكذا تحولات تحتاج إلى عشرات السنين، وتحتاج أيضا لعشرات بل مئات الأقلام التي تعمل بجد وإخلاص لتكتب وتنشر، وبعد ذلك يمكن أن نرصد بعض النتائج.

كما يجب أن لا نغفل من حسابنا طبيعة المرحلة الحالية، من حيث الهجوم المنظم على الأديان وقيمها، خاصة في الغرب حيث يتوالى إصدار قوانين مجتمع الميم التي تتعارض مع كل الشرائع، بل ومع كل القيم الإنسانية السوية، وما يستدعي كل هذا من رد فعل ديني معاكس.

واجبنا جميعا اليوم نشر الوعي بحقيقة الأديان، وبأنها كلها من مصدر واحد، وأن غايتها واحدة وهي الارتقاء بالإنسان وتحقيق سعادته الروحية. ومجتمعاتنا الآن تحتاج بشدة إلى سعي جمعي يؤسس لوعي بحقيقة الأديان وتسامحها وقيمها السامية، وحدودها التي يجب أن تقتصر على حياتنا الروحية.

10