الوصفة الجديدة لتغيّرات تبون.. ثورة في الديوان أم "سلام الشجعان"

هذان نموذجان تسيل فيهما الكثير من الأحداث المرتبطة بالقصر على تفاوت ما يقال عنهما في الأوساط الضيقة وفي الغرف الخلفية ومن وراء الستار، وحتى عند معارضين أغلبهم ينشطون في الخارج.
السبت 2023/10/07
مناخات ثقيلة تجثم على الجو في قصر كثرت دهاليزه

قد تشير مراجعة وضبط الصلاحيات التي ألحقت مؤخرا بمدير ديوان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، السفير السابق محمد النذير العرباوي، إلى مسار تصحيح الأخطاء والعثرات التي حدثت هناك في القصر، ووضع حد لما يتردد عن نفوذ هائل مارسه محيط الرئيس في كل المجالات، وقد تؤشر على تحول كامل للعبة الاستمرارية في الذهاب إلى العهدة الثانية التي كما يقال أصبحت مهددة بسبب ممارسات ابتلعت في الطريق الكثير من الآمال المعلقة للخروج من عنق الزجاجة والانسداد والعزلة.

فما الذي يمكن أن يستشف من قراءة أولية للمرسوم الرئاسي الصادر الذي وقعه تبون مؤخرا في الجريدة الرسمية؟

لنبتعد قليلا عن سياسة التهويل والتضخيم المنتهجة من النظام الحالي وفريقه والأذرع الإعلامية والمنصات (ونخص بالذكر أيضا وسائل إعلام ونشطاء وقوم تبّع من المعارضين أو المتذمرين والساخطين أو صيادي الفرص في المياه العكرة أو ببساطة تامة الحواشي والعملاء الذين لا يعجبهم الصيام في رجب) بما يتعلق بقرارات عادية هي من صميم العمل الرسمي المتبع منذ استقلال الجزائر، فالمئات بل الآلاف من القرارات والمراسيم كانت تصدر بشكل طبيعي وعادي، تعدل أو تلغى أو يضاف إليها، دون أن تتخذ هذه الأبعاد من الإشادة والترويج والقراءات المتنوعة تصل حد الانبهار، وتوجه إليها من لدن رماة الانتقادات الحادة السهام والرصاص، وكأنها تحدث لأول مرة واستثناء في سرديات الدولة وصيرورتها، جديدة وخالصة وفريدة من نوعها.

ندرك تماما أن الفريق الحالي منذ اعتلاء الرئيس تبون سدة الحكم يجهد ويجاهد لتثبيت نفسه في خضم تيارات التقلبات الداخلية والخارجية، ومناخات ثقيلة تجثم على الجو، وحالات غليان ملموسة في واقع الحال، نراها حتى في الوجوه، بسبب ما تراكم من حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، ومن حقب أخرى كي نكون منصفين، وما تبعها من منجزات كثيرة مليحة أو لا تسر الناظرين، وانهيارات وانكسارات ومفاسد، وما خلفته الفراغات والشقوق في بنية الدولة والمجتمع، وهم منذ دخولهم بعلاتهم ودهشتهم ونياتهم إلى خدر السلطة، أكانوا مخضرمين يعرفونها بالمليمتر، أم جددا وفدوا عليها وفتنوا بمحاسنها التي لم ترد لا في بالهم ولا في يومياتهم، وكانت فقط مجرد أمنيات وأحلام يقظة لذيذة، سحيقة وغائرة في المستحيل، فمن يقدر أن يصف الآن وضع بعض المكلفين بمهام هناك وهم مرغوبون بشدة من طرف الكل، ولا يتوقف رنين هواتفهم ليل نهار.. ومن يستطيع رسم صورة متكاملة عن مستشاري الرئيس.. كيف هم في مكاتبهم المريحة المكيفة؟ ماذا يفعلون في أيام عطلهم، وفي أوقات فراغهم وفضفضتهم؟ هل ينامون بكسل، مطمئنين أم قلقين؟ هل يراودهم هاجس انقطاع الماء كما يحدث لأي مواطن بسيط في حي شعبي متهالك؟ هل يصلهم حفيف الأزمات العميقة التي تعصف بصمت أمام أعينهم لما تمر مواكبهم في الشوارع المزدحمة؟ ولن نتحدث عن شوارع المناطق البعيدة مناطق الظل كما يصفها الرئيس وحاشيته والتي لا أحد يعرف إن عبروها يوما.

العرباوي مدير ديوان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون
العرباوي مدير ديوان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون

على فرض أن ثلاث سنوات أو أكثر بقليل كانت كافية للرئيس تبون لتقييم الوضع العام والانتقال به من فوضاه إلى ترتيبه واستقراره، وأنه احتاج إلى أدوات وآليات جديدة رقابية واستباقية تساعده في الحفاظ على سجل حكمه نظيفا وسط كلام كثير عن أزمات حقيقية أو مفتعلة مست حياة ومعيشة المواطن بشكل مباشر، أو ما يقال عن انتشار رهيب للفساد ظاهرا وخفيا متوزعا في كل مكان، في مقابل حرب بلا هوادة تقودها المصالح ضد استفحاله أكثر وأكثر كي يتم القبض على صنّاعه الحقيقيين لا صغار القوم الذين يدفعون الثمن ليس لأنهم أبرياء خُلص، دفعوا إلى هذه الساحة عنوة، بل لأن طغيان الضبابية وتجذر اللامبالاة وغياب الردع القوي والشفافية وسعت من التمدد، حتى أننا عندما نسمع أو نقرأ عما يحدث تخال أننا لسنا دولة ضحى عليها الرجال، واختطفت حريتها بالدم والنار، وأننا نعيش في ظل جماعة مارقة مافيوزية، لا أمن فيها ولا جيش أو أخلاق وقيم.

على الأرجح أن الرئيس تبون مكبوس بين فكي كماشة قاطعة، واحدة في فريقه وبطانته، والثانية داخل المؤسسة العسكرية بحد ذاتها، لذلك قد تكون هذه التصحيحات مخرجا سليما بأقل الأضرار من هذه الكماشة، فلا هو يريد الاستغناء عن جماعته حتى لا يقال له هؤلاء هم من استقدمتهم فشلوا وطغوا في البلاد، ولا المؤسسة العسكرية تريد أن تبقى كالمتفرج الصامت على استفرادهم بصلاحيات نافذة وهائلة، أدت في كثير من الأحيان إلى تكاثر كثيف للأقاويل والشائعات عنهم مما أضر بسمعة الدولة وعلاقاتها، ومن ثمّ تأججت التجاذبات الصامتة بين طرف وطرف، وإن لم تكن ظاهرة للعيان، بل ترمى كراتها في ملعب وسائل التواصل الاجتماعي أو في مختلف وسائل الإعلام.

ولنا في مثال مستشاره الأقرب بوعلام بوعلام (بي بي كما ينعت) صورة لحالة طردية بين من يقول بسيطرته سيطرة مطلقة على مفاصل القرار حتى أنه – كما قلنا سابقا عنه – منسوب إليه قوى إلهية خارقة، وبين من يرى أنه مجرد شخصية عامة بسيطة تنفذ ما هو محدد لها من خطوط ونقاط، وهو ما أفضى غالبا إلى جدل عقيم ورديء حوله غذى المخيال الجمعي لفئة من البشر مسؤولين وعسكر ورجال أعمال و.. غيرهم، وارتكنوا إلى آلة البروباغندا، وحولوه عبرها ومع الوقت إلى إنسان خرافي وأسطوري، لا يقترب من عتباته إلا من تلقى البركات والحظوة، القبول والرضا والحسنات، وهذه في رأينا حالة باتولوجية مترسخة في الأنظمة الشمولية، حيث التهليل والتسبيح والتعظيم والتكبير بشخص ما يمتلك مواصفات تضرب حولها سبائك من الأسطرة حتى يظن أنها لا تموت ولا تحيا، غامضة ومرعبة كما كان عليه الحال في شخص الفريق محمد مدين المشهور بتوفيق رئيس جهاز المخابرات سابقا أو لاحقا مستشار الرئيس بوتفليقة المسجون حاليا.

وهذا الأمر راجع في رأينا، إلى قلة الشفافية والتوجس من التغيّر، وانعدام أي اتصال حقيقي في هياكل الدولة، خاصة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، مع أن في كلتيهما توجد نخبة كبيرة على أعلى مستوى من التكوين والثقافة والعلم والتواصل يمكنها أن تتقدم الصفوف الأمامية لمعركة الترويج والدعاية وشرح المستجدات، ولكن غلبة الشائعات والفبركات وأحاديث الإفك والمفتريات وسريانها كالنار وتشظيها في وعي المواطن، حالت دون أن تجد الكثير من الحقائق الساطعة، مكانها ضمن مسطرة الحياة والمجتمع.. فما يضير بوعلام بوعلام لو يخرج إلى العلن يقول: ما أنا إلا بشر مثلكم أمشي في الأسواق وأنام وأصحو وأمرض.

بوعلام المستشار الأقرب لتبون
بوعلام المستشار الأقرب لتبون

نموذج أخر متعاظم أيضا في المخيال العام، وإن كان هذا في وسط محدود ألا هو الوسط الإعلامي، وهو كمال سيدي السعيد مدير إعلام الرئاسة، حيث تشي الوقائع والكلام وحتى التقارير بسطوة كبيرة مبسوطة في يديه على كافة وسائل الإعلام والمواقع والإعلان، وفي أحدث ظهور له تقاطرت عليه الوفود وطلائع ملل ونحل الصحافيين ومدراء الجرائد والقنوات من كل صوب وحدب. المحظوظون منهم فازوا بتحية وعناق وهمسات نادرة في الأذن وبطاقة مدونة عليها تلفوناته ووسائطه، وآخرون نظروا، حاولوا الاقتراب، لم يسعفهم الحراس، أبعدوهم بلطف، وفي قلوبهم غصة وحرقة في انتظار وعد وموعد آخر، أما هو فقد بدا مزهوا في ثوبه، محلقا في سماء أخرى تدور حوله الطيور.

هذان نموذجان تسيل فيهما الكثير من الأحداث المرتبطة بالقصر على تفاوت ما يقال عنهما في الأوساط الضيقة وفي الغرف الخلفية ومن وراء الستار، وحتى عند معارضين أغلبهم ينشطون في الخارج، أقاويل تتراوح بين التعظيم والتبرم، السخط والإساءة، الضيق والتحسر، التشفي والتشويه، الكذب والصدق، خاطئة وصحيحة، شائعة أو حقيقية، ولكن في أغلب الظن أن هذا ما دفع بهذه المراسيم إلى أن تُفعل وتسرح من معاقل الجمود والصمت والتكلس والصدأ.

لم يكن العرباوي مدير ديوان الرئيس وهو الصارم والخشن والصعب كما يروى عنه، يأمل أكثر من هذا، ضخ دماء جديدة في مفاصل ديوانه الواهنة الكسيحة بسبب التداخل والتنافر والانفلات، فالحكم إذا اختلط بعظم وهي عظام كثيرة على طاولة القصر قد تكسر الأسنان. والبديل الأفضل للرئيس تبون إن أراد أن يذهب إلى العهدة الثانية والفوز بها، ألا يدع “المركب السكران” يغرق أكثر وأكثر بأحمال ثقيلة مرفوعة على أكتاف معاونيه ومستشاريه قليلي العدد، ولكن الملفتين للانتباه غالبون، ونافذون نفوذا صارخا، وقد يكون هذا التصحيح شرطا سريا غلفته المؤسسة العسكرية بإحكام لمباركة هذه العهدة الثانية والمضي بها إلى بر الأمان والقبول.

ظهر الرئيس تبون في لقاءاته الأخيرة مع بعض التنظيمات والشخصيات محاطا برجلين لا أكثر، مدير ديوانه العرباوي ومستشاره المخصوص بصفة الأقرب منه بوعلام بوعلام، وهو دليل ثقة كبيرة فيهما، وهو في رأينا أيضا دليل لا لبس فيه أن وصفة التغيّرات القادمة والتي ستكون كثيرة لن تمر بسهولة ويسر “جيبوا برك يفوت وقت معنا”، بل ستكون ممهورة ببصمات قوية وصارمة لرجلين يجلسان جنبا إلى جنب في قصر كثرت دهاليزه والتعرجات المؤدية إليه. بل الأمل أن الطريق الوحيد إليه ستكون من الآن بيد رئيس ديوانه ومستشاره.

9