شعور بافتقار العراق إلى شخصية كاريزمية جامعة في الذكرى السادسة لرحيل جلال طالباني

إرث كبير في نزع فتيل الصراعات والتقريب بين فرقاء الساحة السياسية العراقية.
الخميس 2023/10/05
ماكنة سياسية لم يوقفها غير الموت

لم يمثّل إحياء ذكرى رحيل الزعيم العراقي جلال طالباني مناسبة لاستذكار خصاله ومزاياه الشخصية فقط، وإنما سلّط الضوء أيضا على حاجة العراق إلى هذا النوع من الزعامات العابرة للانتماءات الضيقة والقادرة على لم شمل الفرقاء وتقريب وجهات نظر الخصوم لتجنيب البلد صراعات مجانية لطالما أضرت بوحدته الداخلية وهددت تماسكه واستقراره.

السليمانية (العراق) - هيمن شعور افتقار الساحة السياسية في العراق إلى شخصية سياسية جامعة وبعيدة عن النوازع العرقية والدينية والطائفية الضيقة التي تسود البلاد منذ أكثر من عقدين، على الحفل التأبيني الذي أقيم في بغداد بمناسبة الذكرى السنوية السادسة لرحيل الرئيس العراقي الأسبق والزعيم الكردي الكبير جلال طالباني.

وتوفي مام جلال (العم جلال) في الثالث من أكتوبر سنة 2017 مخلّفا فراغا ملموسا في الساحة العراقية، كونه أحد آخر الزعماء العراقيين العابرين للطوائف والعرقيات، مقارنة بالغالبية العظمى من أفراد الطبقة السياسية التي تصدّرت المشهد بعد سنة 2003 وتميزت بسطحية طروحاتها وبضيق أفقها وكثرة صراعاتها التي انعكست بشكل واضح على الواقع العراقي سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا.

وجرى حفل التأبين بحضور عدد من الشخصيات والقياديين العراقيين من بينهم رئيس الجمهورية عبداللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

كما حضر الحفل رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني ونائب رئيس حكومة إقليم كردستان العراق قوباد طالباني وقادة الكتل والأحزاب العراقية، بالإضافة إلى رؤساء وممثلي عدد من البعثات الدبلوماسية الأجنبية.

إحسان الشمري: طالباني كان يضبط إيقاع اللعبة السياسية ولا يسمح بانفلاتها
إحسان الشمري: طالباني كان يضبط إيقاع اللعبة السياسية ولا يسمح بانفلاتها

ولاحت من بين أسطر كلمات التأبين التي ألقيت بالمناسبة أهمية شخصية جلال طالباني بما لها من تجربة واسعة وحنكة سياسية مكنت صاحبها، بالفعل وفي أكثر من مناسبة، من التوسّط بين أكثر الفرقاء السياسيين اختلافا وتباعدا في الآراء والتوجّهات.

ويقول سياسيون عراقيون واكبوا جزءا من المسار الطويل لطالباني إنّ كاريزما الرجل مكنته من حلّ الكثير من القضايا المعقّدة ومن تجاوز العديد من المواقف الصعبة التي واجهها العراق بفعل ما تفجّر فيه من صراعات حادّة  بين الفرقاء المتصارعين على السلطة في مرحلة ما بعد سنة 2003.

ويرجعون ذلك إلى منسوب الثقة العالي في الرجل الذي لم يظهر تلهفا على السلطة رغم أن المجال فسح له واسعا بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، مؤكّدين أن فوزه بمنصب رئيس الجمهورية في 2005 و2010 كان بسبب حالة الإجماع حول شخصه.

ويقول المحلل السياسي العراقي إحسان الشمري “إن غياب طالباني أثّر بشكل كبير على النخبة السياسية وعلاقاتها في ما بينها، إذ أنه كان إلى حد كبير يضبط إيقاع اللعبة السياسية ولا يسمح للأمور بأن تنفلت”. أما عصام الفيلي أستاذ العلوم السياسية فعلّق على غياب مام جلال بالقول إنّه “من الصعب جدا إيجاد شخصية بديلة عن طالباني تتمتع بالكاريزما نفسها التي يتمتع بها هو”، معتبرا أنّه كان “صمام الأمان لأنه كان عابرا لكل الانتماءات الطائفية والقومية”، وأكد أنّه “كان قادرا على خلق مقاربات ومبادرات سياسية” استثنائية.

وكما كان غياب مام جلال مؤثرا على الساحة العراقية ككل، فقد كان الفراغ الذي خلّفه في إقليم كردستان العراق محسوسا بدرجة أكبر خصوصا لجهة اختلال الموازين بين القوّتين السياسيتين الأبرز في الإقليم وهما الحزب الذي أسسه طالباني نفسه الاتّحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني.

كاريزما طالباني مكنته من حلّ الكثير من القضايا المعقّدة ومن تجاوز العديد من المواقف الصعبة التي واجهها العراق

وبعد سنوات من التراجع أعقبت رحيل مام جلال بدأ الاتحاد يستعيد مكانته مؤخرا بفعل جهود رئيسه بافل طالباني الذي يقول مراقبون إنّه يحمل الكثير من خصال والده بدليل شبكة العلاقات الواسعة التي تمكّن من نسجها داخل العراق وخارجه ومع أطراف من كل المشارب الفكرية والسياسية.

وقال الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد في تأبين مام جلال إنّ “الراحل كان جزءا لا يتجزأ من العراق وكردستان، وترك إرثا تاريخيا ضخما ورحيله خلف فراغا كبيرا”، مضيفا أنّه “عمل من أجل عراق ديمقراطي حر ومستقر”.

ولفت إلى أنّ الرّجل كان كثيرا ما يردد “أن الشعب العراقي بتنوعه ومكوناته عنصر قوة لا ضعف، وكان يردد دائما عبارة كلنا معا نكون أجمل كشدّة الورد”.

وكان جلال طالباني يتميز بعلاقات سياسية ودبلوماسية واسعة على مستوى العراق والدول الإقليمية والغربية. وقد بدأ اهتمامه بالسياسة مبكرا منذ أن كان طالبا في التعليم الابتدائي إذ شكلت سنة 1947 بداية للعمل السياسي المنظم لديه حين أصبح عضوا فعالا في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني “البارتي”، برئاسة الملا مصطفى بارزاني. وفي العام 1951 انتخب عضوا في اللجنة المركزية.

دخل كلية الحقوق في بغداد سنة 1953 لكنه اضطر إلى ترك الدراسة حينما كان في السنة الرابعة عام 1956 هربا من الاعتقال بسبب نشاطه في اتحاد الطلبة الكردستاني.

بعيدا عن السياسة كثيرا ما تتحدّث شخصيات عرفت مام جلال من قريب عن شخصية بسيطة ومرحة وذات زاد ثقافي كبير

وفي يوليو 1958 عقب الإطاحة بالنظام الملكي عاد إلى كلية الحقوق وتابع عمله صحافيا ومحررا في المجلات والصحف الكردية، وبعد تخرجه عام 1959 استدعي لتأدية الخدمة العسكرية في الجيش العراقي حيث خدم في وحدتي المدفعية والمدرعات وكان قائدا لوحدة دبابات.

وفي منتصف الستينات تولى عددا من المهام الدبلوماسية التي مثل فيها القيادة الكردية في اجتماعات بأوروبا والشرق الأوسط. وعندما انشق الحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1964 كان طالباني عضوا في مجموعة المكتب السياسي التي انفصلت عن قيادة الملا مصطفى بارزاني.

وبعد الانتكاسة التي منيت بها الثورة الكردية عام 1974 أسس جلال طالباني مع مجموعة من رفاقه القدامى والمناضلين في العاصمة السورية دمشق حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ومنذ ذلك الحين سمي بحامل راية القضية الكردية والمسيرة الديمقراطية في العراق.

وبعد سقوط النظام العراقي عام 2003 كانت لطالباني أدوار عديدة أداها بدءا بتوحيد صفوف المعارضة العراقية خارج البلاد، وفي عام 2005 انتخب رئيسا للعراق وأعيد انتخابه لولاية ثانية سنة 2010.

وبعيدا عن السياسة كثيرا ما تتحدّث شخصيات عرفت مام جلال من قريب عن شخصية بسيطة ومرحة وذات زاد ثقافي كبير حيث يعرف عن طالباني أنّه كثير القراءة وحافظ للإشعار بما في ذلك أشعار الشاعر الكبير مهدي الجواهري.

3