مراجعة هادئة للعلاقة بين الجزائر والإمارات

يحكى عن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله أنه أصيب بالحيرة واستبد به القلق عندما اندلعت موجة الإرهاب في الجزائر، وقال لمعاونيه في أحد المجالس اذهبوا إلى الجزائر واتصلوا بمسؤوليها وبمن ترونه أهلا لإطفاء نار الفتنة. اتصلوا بعقلائها وبحكمائها وبالمجاهدين الكبار. أصلحوا بين الخصوم وأجلسوهم على طاولة البر والسلام. افتحوا لهم خزائننا وأعطوا لهم ما يشاءون. لا تترددوا في تلبية الطلبات أيا كان نوعها وقيمتها، فقط لتقف شلالات هذه الدماء الغريبة بينهم.. بين الأخ وأخيه وبين طرف وطرف وبين جماعة وجماعة.
صدرت تلك الصرخة عن زعيم عربي طالما وقف إلى جانب الشعوب العربية والإسلامية في المحن والأزمات، وكان دوما ضمن الآباء الكبار والعظماء بما امتاز به من بصيرة وحضور وكاريزما في الوجدان والضمير، ولعب أدوارا بارزة في تقريب وجهات نظر المختلفين، أدوارا سرية وعلنية. وكان دوما يقدم قيم الصلح والإصلاح، رافعا خلق حسن الجيرة عاليا خاصة بين العرب والمسلمين، يبسطه على الأرض كحل لا مناص منه. وكان يأنف من لغة السلاح والرصاص التي لا تؤدي إلا إلى الدمار والهلاك، فهو أصيل البوادي والصحاري وابن أخلاقها السامية المتواترة أبا عن جد وجيلا عن جيل.
◙ ليست الجزائر في عمقها إلا الإمارات، وليست الإمارات إلا الجزائر. ومن يريد التأكد ما عليه إلا أن يسأل العشرات والمئات من الجزائريين الذين يعيشون هناك ويساهمون في نهضة البلد معززين ومكرمين
تقفز الواقعة السالفة الذكر، والتي ربما لا تعرفها إلا قلة قليلة كانت داخل السلطة في الجزائر في تلك الفترة التي أعقبها عدد من الزيارات واللقاءات غير المعلنة، تقفز في خضم توتر صامت يسري بين الجزائر والإمارات على خلفية نشر خبر غامض في تفاصيله نقلته قناة خاصة ثم سحبته وانجرّت عنه إقالة وزير الاتصال وإصدار بيان رسمي من وزارة الخارجية يشير بلغة دبلوماسية معهودة إلى متانة العلاقات بين البلدين. أعقب ذلك لقاء مقتضب مر دون صخب بين سفير الجزائر في تركيا والسفير الإماراتي هناك. ويجهل إن كان اللقاء يتعلق بهذه الحادثة.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد. فبعد ذلك بأيام نُشر مقال في صحيفتين مستقلتين (ونضع هنا كلمة مستقلتين بين قوسين)، وهو مقال اتخذ منحًى آخر وأبعادا متشعبة، موغلا أيضا في الغموض ومقلقا، بأسئلة ستظل معلقة في بورصة التكهنات والمضاربات عن الجهة التي حركت رواكد نعتقد ويعتقد الكثير من المراقبين أن الجزائر في غنى عنها، ولا معنى لها أصلا، لأنها تعيدنا إلى مربع ما يقال إنه صراعات أجنحة وضغوط تمارس في الخفاء ضد التوجه العام الجديد للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، منذ أن نطق به في حملاته الانتخابية إلى أن أصبح رئيسا للبلاد. توجه مأمول وطموح لتفكيك لعبة الشدّ والمدّ بين مكونات النظام (السياسي والعسكري)، والذهاب إلى المستقبل بخفة دون محمولات ثقيلة على الأكتاف تعطل الانطلاق والمسيرة، والإقلاع (كما يحب الرئيس تبون تسميته) إقلاعا حقيقيا لا إقلاعا مؤسسا على الأوهام والزيف والخداع.
قطعا لا تسير العلاقات بين الدول في خط ثابت.. من حين إلى آخر يخيم عليها الشك والريبة والقلاقل والاضطرابات؛ تبدأ في السر، ثم ما تلبث أن تخرج إلى العلن، وقد تموت للتو واللحظة وفي الظل، ولا يكون ذلك بالأمر السهل، حيث يتمسك كل طرف من موقعه بأنه على حق والآخرين على ضلال. وقد تلملم الخلافات حسب درجة وعي وحس مسؤولية القادة لتطوير العلاقات وتجاوز ما يقض من إشكاليات، وإن أخفقت فليس العيب فيها بل في رقبة بعض القادة حين يصلون بها إلى حوافي جنون العظمة.
كانت علاقات الجزائر مع الأشقاء العرب تميل دوما إلى نعومة التاريخ البعيد والإرث المشترك وقواسم حضارية تتعالى عن السفاسف، يتصرفون وفق قيم الأخوة والعائلة والصداقة الأكثر وجاهة. بها تفادوا في الكثير من الأحيان رعونة الخصام والعداوة التي تضرم نارها بأيدي تفوح منها رائحة المؤامرات والدسائس، قادمة من الخارج وممعنة في دك حصون هذه الروابط.
لذلك لا نستبعد أن تكون هذه الأيادي التي تظهر بين حين وغرة وراء كهربة الجو بيننا وبين الإمارات، رغم العمق العربي الإسلامي الذي تنتمي إليه الجزائر بالقوة والفعل والتاريخ، أياد لها من النفوذ والسيطرة وحتى الكراهية ما يجعلها تضيق الخناق على أي تقارب ممكن وتلقي بالأشواك والألغام على الأرض الصعبة المتحركة التي تبنى عليها الجزائر الجديدة.
◙ يجب أن تطوى الصحائف نهائيا وبشجاعة، وتبيض صحائف جديدة لرأب الصدع، فالمستقبل مخيف ومرعب بذكائه الاصطناعي، وحروبه الافتراضية، وبغضب الأرض
مهما كانت الأسباب والخلفيات، سياسية أو عسكرية، التي جعلت الأمور تتخذ هذا المنحى في التصعيد الذي لا يخدم في تفاصيله العلاقات بين البلدين، كان لا بد أن تعالج بحكمة عالية وبدبلوماسية فائقة، ممهورة بالانتباه والمصارحة، ولو تمّ ذلك في السر.
في زمن مضى كانت الجزائر تملك الكثير من الأوراق في جعبة ساستها وعسكرييها، سمحت بتخفيف التوتر وحصره في حيزه الممكن حتى وإن كان مستحيلا، فلا تقترب إلى نقطة تقوض وتمسح المشتركات والروابط المتينة.
كلنا يعلم مدى تمدد الكثير من التيارات المتصارعة حول الجزائر خارجيا وداخليا، وهذا ليس غريبا أو مفاجئا أو سرا مخفيا، في دهاليز مظلمة، وليس وليد برهة وفاصل يمر مرور الكرام. عيون فرنسا مازالت يَقِظَة يَقْظَة أبدية، ودمها يسيل في عروق النظام والسلطة والذاكرة والوجدان والعقل وحتى في أبسط مناحي الحياة في الجزائر. هذا قدر موغل في الجاذبية والسطوة يراد لنا أن نتعايش معه. وإن ارتفعت أصوات رافضة ومستنكرة لحجم النفوذ الذي لا يفصح عن اسمه صراحة، والضاغط على أنفاس من بيدهم قرارنا، ومن يجب عليهم تنفيذ الأوامر حتى ولو كانت مبهمة يوحى بها من خلف الستار، وترمى في أذن رواد الأمكنة الضيقة.
لذلك، ليس مستغربا أن تكون بعض وسائل الإعلام التي تقود الحملات المعادية والموالية، إحداها. وهي في الواجهة دوما دون أن تعرف حقيقة الدوافع والأهداف. فأن تعود الصحيفة (وهي للمفارقة صحيفة معربة)، التي أطلقت النار كثيفا في سماء العلاقات الجزائرية – الإماراتية، وتعنون بالبنط العريض افتتاحيتها بجملة “عودة الدفء”، للحديث عن الجزائر وفرنسا، هو ما يمكّننا من قراءة المعنى الحقيقي لما وقع، ولما أسلفنا الحديث عنه، والمتعلق بقوة ونفوذ واستحكام بعض التيارات على مفاصل الدولة والسلطة والنظام على إدارة الدفة نحو فرنسا، في الوقت الذي ظن الجميع أن مؤشرات انحسارها في دول أخرى قريبة منا وتلوح في الأفق. ولن نضرب أمثلة كثيرة؛ ما يحدث في النيجر أسطع دليل وبرهان على ذلك الانحسار.
◙ تقفز في خضم توتر صامت يسري بين الجزائر والإمارات على خلفية نشر خبر غامض في تفاصيله انجرّت عنه إقالة وزير الاتصال وإصدار بيان رسمي من وزارة الخارجية يشير بلغة دبلوماسية إلى متانة العلاقات بين البلدين
لا يلزمنا فائض من الفهامة و”تكسار الراس” لندرك أن صراع التموقع وخيارات الاصطفاف بين العديد من الأطراف والقوى بات يشكل خطرا وشيكا على الجزائر. في الظاهر هذا مستحسن ومحفز للرفع من مكانتنا عالميا. سيبقى هذا محكوما بتحرر قادتنا تدريجيا من سياسة التفضيل بين هذا وذاك، خاصة أن الوقائع الكثيرة التي جربت إلى حد الآن (بريكس مثالا) أثبتت أنها خاطئة، وأدت بهم إلى القبض على الريح. وإن كان لا بد لهم من “الرجوع إليك”، فشرط الرجوع تبديد الخصومات الوهمية والعداوات النفاثة من أفواه من لا يحبنا.
ما يقلق بحق كما يرى الخيرون، أن التخفي خلف عناوين تتبهرج وفي ظنها أنها تستكمل مشهد الدولة المستهدفة من الجميع، والمحسودة والمتآمر عليها في السر والعلن، هو في الحقيقة تصعيد لن يزيد الجزائر إلا عزلة قاتلة، إن لم يكن عن قوى ستستهلكنا وتستهلك ما لدينا، ثم تسلمنا إلى برد الطريق، فإنه حتما سيبعدنا عن أقرب الناس إلينا؛ عمقنا المنتشر في التاريخ، والعائلة الكبرى.
في تقديري يجب أن تطوى الصحائف نهائيا وبشجاعة، وتبيض صحائف جديدة لرأب الصدع، فالمستقبل مخيف ومرعب بذكائه الاصطناعي، وحروبه الافتراضية، وبغضب الأرض التي تتزلزل كل حين وتفيض أنهارها بغتة.
ليست الجزائر في عمقها إلا الإمارات، وليست الإمارات إلا الجزائر. ومن يريد التأكد ما عليه إلا أن يسأل العشرات والمئات من الجزائريين الذين يعيشون هناك ويساهمون في نهضة البلد معززين ومكرمين، وكأنهم في بيتهم وبين عائلاتهم، أو يلقي نظرة هنا على حجم ما يتبادله الطرفان من خيرات ومنافع ومصالح.
وليَعِ الجميع أن دمنا واحد لن يتفرق بين السيوف.