في ماهية الإقليم و"الأقلمة" بتونس

يجادل الكثيرون معارضين التقسيم الجديد للجهات التونسية إلى خمسة أقاليم، وهو ما اقترحه الرئيس قيس سعيّد وعرضه على مجلس الوزراء الأسبوع الماضي للنقاش وختمه ليضمّن بالرائد الرسمي (المجلة التونسية للقوانين والتشريعات).
لكن اللافت أن جل التحليلات والنقاشات تركزت حول أمور هامشية لا علاقة لها بالقانون الجديد (الأمر عدد 589)، وما يمكن أن يحمله من آثار إيجابية تتعلق بالتوازن الجغرافي بين الجهات والتنمية الاقتصادية في تصورها الشمولي الأعم. فيما اقتنص أكاديميون ومختصون الفرصة لمحاولة تصحيح الرؤية بأن التقسيم الجديد للبلاد فيه من الرؤية الإستراتيجية لمستقبل التنمية وخلق المواءمة بين الجهات في تونس الشيء الكثير.
البعض طرح أسئلة جدلية وفرضيات واقعية للنقاش منها أساسا أن تقسيم البلاد التونسية إلى أقاليم لا يكمُن في التقسيم بحد ذاته بل في الصلاحيات التي ستتمتع بها هذه الأقاليم، وإلى أي مدى يمكنها أن تمثل قوة اقتراح من أجل تغيير واقع التنمية وضمان قدر أكبر من التوازن بين الجهات؟
لكن بعيدا عن المقايضات والرؤى النقدية السطحية التي يطرحها هذا أو ذاك، فإن الأساس في التقسيم كونه اعتمد على عدد من الثوابت أهمّها المحافظة على التقسيم الحالي للولايات (المحافظات)، وخاصة على حدودها الترابية من أجل ضمان الوحدة الترابية للإقليم وبالتالي تكوّنه من ولايات متلاصقة جغرافيا وضرورة تواجد مدينة كبرى تلعب دور الحاضرة الإقليمية.
من المفيد أن تتغيّر تونس وتنوّع شراكاتها وعلاقاتها وتنفتح أكبر على محيطها سواء في الداخل أو الخارج، لكن من المفيد أيضا أن يكون هذا التغيير مدروسا ومخططا له بثبات لكي لا يقال إن البلاد تسير باتجاه مخطط تنموي أعرج
تم تقسيم تونس إلى خمسة أقاليم تتوزع على المستوى الجغرافي، في الشمال إقليمان، وفي الوسط والجنوب ثلاثة أقاليم. ومكن هذا التقسيم من تجاوز جملة من الصعوبات كانت مطروحة أولاها عدم إعطاء أي أسماء للأقاليم والاكتفاء بصيغة الترقيم، ثانيا عدم تعيين عاصمة للإقليم والتداول في ما بين الولايات خلال عقد الاجتماعات، والتي تتم بصفة دورية وكل ستة أشهر لتجنب إثارة الخلافات بين الولايات، وأخيرا دمج ولايات ساحلية مع ولايات داخلية لضمان التمازج والانصهار في ما بينها داخل كل إقليم.
تقوم فلسفة “أقلمة” المجال على فكرة أن التنمية الترابية يجب أن يخطط لها الفاعلون المحليون، ممثلين في الهياكل المهنية المنتخبة والمنظمات وغيرها من الفاعلين لأن هؤلاء هم الأقرب إلى معرفة احتياجات الإقليم والأجدر بتحديد رؤيتهم للمستقبل أكثر من السلطة المركزية.
وباعتبار أن التخطيط يكون مركزا على مخطط إستراتيجي بعيد المدى، فإن المجال الترابي يجب أن يتجاوز البعد المحلي ليشمل مجالات كبرى ليس بالضرورة أن تكون متجانسة، لكن المهم أن تضم مراكز حضرية كبرى لتلعب دور الحواضر الإقليمية من أجل النهوض بكامل الإقليم.
حاول التقسيم الجديد أن يراعي الحركية التنموية التي يمكن أن يمنحها للولايات الداخلية بمحاولة ضمها إلى الولايات الساحلية التي تتميز بدينامية اقتصادية واستقرار، على أقله في مستوى بنيتها التراتبية على الصعيد الوطني.
قوة التقسيم كونه جاء أفقيا بما يضمن التكامل بين ولايات الإقليم الواحد وبما يسهم في القطع مع نظام “السوحلة” العمودي الذي أثبت عدم فعاليته منذ عقود وكرّس سيطرة الولايات الساحلية على نظيراتها الداخلية.
أسهم نظام “السوحلة”، سيء الذكر، في تركز أغلب الأنشطة الاقتصادية للبلاد التونسية على الشريط الساحلي، فيما بقيت الولايات الداخلية في عزلة وتابعة للولايات الساحلية والعاصمة، سواء من حيث التنمية أو توفر المرافق الضرورية للمواطن (خدمات، صحة، تعليم..).
قوة التقسيم كونه جاء أفقيا بما يضمن التكامل بين ولايات الإقليم الواحد وبما يسهم في القطع مع نظام "السوحلة" العمودي الذي أثبت عدم فعاليته منذ عقود وكرّس سيطرة الولايات الساحلية على نظيراتها الداخلية
الأساس هنا أن يشجع التقسيم الجديد على خلق تمازج وترابط بين الولايات، يقضي على ظاهرة الحدود الترابية والإدارية الوهمية التي وضعتها المخططات التنموية وأثبتت عبر السنين عدم فعاليتها في خلق التوازن بين الجهات.
من هنا جاءت الرؤية الإستراتيجية التي قدمها الرئيس سعيد خلال حملته الانتخابية في العام 2019، وعبر عنها في أكثر من مناسبة وأكثر من لقاء، بإعطاء فرص أوفر للجهات الداخلية لتكون قوة اقتراح وممثلة أكبر في الإستراتيجيات التنموية للبلاد.
ولكي لا يخرج هذا الكلام عن ماهيته الأساسية، فإن المطلوب هو توضيح الصورة أكثر للمواطن التونسي بأن ما جاء به المرسوم التنموي المتعلق بتقسيم البلاد إلى أقاليم يعكس تخطيطا إستراتيجيا قوامه خلق علاقة “مصاهرة تنموية” بين الجهات والأقاليم.
من المهم مباركة هذه الرؤية ودعمها والوقوف عند أبرز الآمال الإيجابية التي يمكن أن تحملها للمواطن التونسي، لكن هذا لا يشفع لها بأن تكون عصية على النقد البناء الذي يتوجب الوقوف عنده من أجل أن تسلك تونس طريقها نحو خلق تنمية حقيقية فعلية بين الجهات.
ولأن من رهانات التقسيم الجديد هو ضمان العدالة التنموية بين الجهات والأقاليم، فهل يعني ذلك القطع مع ظاهرة المركزية التي مازالت تحرّك الفعل التنموي لتونس؟ ماذا عن الاستثمارات والمشاريع التي تنوي الدولة التخطيط لها مستقبلا، وأي الولايات ستكون مؤهلة للاستقطاب، وهل سعت الدولة إلى ربط المجال وتهيئته ليكون مواتيا وملائما والأهم مستعدا لهكذا مخططات مستقبلية؟
من المفيد أن تتغيّر تونس وتنوّع شراكاتها وعلاقاتها وتنفتح أكبر على محيطها سواء في الداخل أو الخارج، لكن من المفيد أيضا أن يكون هذا التغيير مدروسا ومخططا له بثبات لكي لا يقال إن البلاد تسير باتجاه مخطط تنموي أعرج.