كيف تغير القطاع المصرفي منذ انهيار ليمان براذرز؟

الجهات التنظيمية جعلت إفلاس البنك الأميركي نموذجا لاعتماد معايير صارمة لتجنب حصول ارتدادات قوية.
الثلاثاء 2023/09/12
نهاية علامة كانت في يوم ما لا تقهر!

شكل انهيار بنك ليمان براذرز إحدى أبرز الصدمات في القطاع المصرفي العالمي في الوقت الحديث، لكن تبعات هذا الإفلاس حركت خيوطا كثيرة جعلت الجهات التنظيمية تضع قواعد مشددة لتفادي كارثة من هذا النوع، ورغم ذلك تكرر السيناريو في 2023 مع كريدي سويس في صدمة بدت أقل وقعا.

لندن - عرف القطاع المصرفي العالمي تغيرات جذرية طيلة 15 عاما، أي منذ كارثة بنك ليمان براذرز الأميركي وصولا إلى الاستحواذ على كريدي سويس السويسري في وقت سابق هذا العام لتفادي انهياره.

وكان إفلاس براذرز وانهياره على خلفية أزمة الرهون العقارية في السوق الأميركية، مسبّبا أساسيا للأزمة المالية العالمية في 2008 التي مازالت محطاتها تطارد من عايشها عن قرب.

وعند اندلاع أزمة ليمان براذرز عام 2008 قررت إدارة الرئيس جورج بوش آنذاك أن تدعه يغرق على أمل أن تجعل منه مثالا، من دون أن تقدّر كل العواقب المحتملة.

وأثار إفلاس البنك الضخم مخاوف في السوق من احتمال أن تتبعه مؤسسات أخرى، ما زاد من حدة المصاعب وحمل العديد من الدول على التدخل.

آنا بوتين: أوروبا باتت تمتلك أدوات في حال انهيار أي مؤسسة مالية
آنا بوتين: أوروبا باتت تمتلك أدوات في حال انهيار أي مؤسسة مالية

وفي هذا السياق تم تفكيك شركة فورتيس البلجيكية – الهولندية ووُضع فرعها البلجيكي تحت إشراف مصرف بي.أن.بي باريبا الفرنسي.

والأهم أن الدول اضطرت إلى اتخاذ تدابير عاجلة لإسعاف مؤسسات عديدة تعتبر أكبر من أن يُسمح بسقوطها إذ كانت ستتسبب في حال إفلاسها بانهيار النظام المالي بالكامل.

ويروي الإيطالي باولو باتاليا قصة انهيار أكبر بنك استثماري في الولايات المتحدة بعدما تم توظيفه في قسم الأصول الخاصة التابع لليمان براذرز بلندن في يوليو 2008.

وقال لوكالة فرانس برس “كانت بداية مغامرة جديدة، فهي وظيفتي الأولى بعد الجامعة وفي ذاك الحين، كان ليمان براذرز مؤسسة مرموقة” تمنح من ينالون فرصة العمل فيها شعورا بالرضا والنجاح.

وأضاف “بالطبع كنت أدرك أنها مرحلة غير سهلة بالنسبة إلى القطاع وليمان على وجه الخصوص، لكن حتى اليوم الأخير لم يتوقع أحد أن يصبح الفصل الحادي عشر نتيجة واقعية”، في إشارة إلى القانون المطبّق لدى إشهار الإفلاس.

وحينما أصبح واضحا أن ليمان غير قادر على الاستمرار كمؤسسة مستقلة ساد الاعتقاد بأنه سيتم الاستحواذ عليه من قبل مجموعة كبرى مثل بنك أوف أميركا أو بنك باركلايز البريطاني.

لكن يوم الاثنين الخامس عشر من سبتمبر 2008 وصل باتاليا وزملاؤه من الموظفين ليجدوا ممثلين عن شركة بي.دبليو.سي، التي ستدير عملية الإفلاس، يوزعون منشورات في ردهة المبنى “تدعو الموظفين إلى عدم إجراء أي عمليات”.

وحينها تغيّر كل شيء بين ليلة وضحاها. وأكد باتاليا أن “وقف النشاطات بهذا الشكل كان مفاجئا”، وإن كان يعدّ نفسه محظوظا لأنه كان موظفا في قسم لم يشهد تسريحا واسع النطاق للعاملين مثل أقسام أخرى.

وبقي الموظف الشاب حتى منتصف 2010 يعمل في صندوق استثماري تملّكه زملاؤه في ليمان قبل الانتقال إلى غولدمان ساكس حيث لا يزال موجودا فيه.

وليام دادلي: أزمات العام الجاري كانت أكثر وضوحا مقارنة بأزمة 2008
وليام دادلي: أزمات العام الجاري كانت أكثر وضوحا مقارنة بأزمة 2008

وتابع “حصلت على أفضل ما يمكن في ظرف مؤسف للغاية. كانت الخيارات محدودة جدا. أنا على ثقة بأن كل النشاطات تمّ فحصها بدقة، وعدم توجيه الاتهام إلى أحد مردّه عدم ارتكاب جريمة”.

وأوضح “نميل إلى الربط بين إشهار الإفلاس وارتكاب الجرم، لكن ما حصل مع ليمان براذرز كان مجرد فشل مشروع تجاري”.

تشدد وقيود

منذ تلك الأزمة باتت البنوك ملزمة باتخاذ العديد من الإجراءات وبذل جهود متعددة لضمان الحفاظ على متانتها خلال الأزمات، وذلك بضغط من الهيئات الناظمة في الولايات المتحدة وأوروبا.

وبات على البنوك على سبيل المثال الاحتفاظ بحد أدنى من رأس المال نسبته أعلى من السابق، بهدف تغطية أي خسارة محتملة قد يتعرّض لها البنك.

كما عليها أن تُبقي على كميات كبيرة من الاحتياط النقدي والأصول القابلة للتسييل سريعا للتمكن من تلبية الطلب في حال حصول أي إقبال مفاجئ من المودعين لسحب أموالهم.

وتهدف القيود الإضافية على المصارف إلى تفادي الحاجة إلى تدخّل الحكومات لإنقاذ المؤسسات المالية المتعثّرة، والامتناع بالتالي عن تغطية خسائرها باستخدام أموال دافعي الضرائب.

وفي مطلع عام 2022 أكدت آنا بوتين، رئيسة بنك سانتاندير الإسباني ورئيسة اتحاد المصارف الأوروبية آنذاك، أن الاتحاد الأوروبي بات يمتلك في حال انهيار أي مؤسسة مالية “إطارا” للخروج من الأزمة مهما بلغ حجمها.

وشكّل استحواذ بنك يو.بي.أس السويسري في مارس الماضي على منافسه كريدي سويس لقاء ثلاثة مليارات فرنك سويسري (3.3 مليار دولار) مثالا على الدرس الذي تمّ استخلاصه من أزمة ليمان براذرز.

ومع ذلك صارت بعض البنوك أكبر من أن تنهار دون أن يسبّب ذلك أزمة اقتصادية ومالية ضخمة.

كزافييه موسكا: إفلاس براذرز قضى على اللاعبين الأكثر هشاشة في القطاع
كزافييه موسكا: إفلاس براذرز قضى على اللاعبين الأكثر هشاشة في القطاع

وأعادت صفقة بيع بنك سيليكون فالي الأميركي، الذي بث انهياره الذعر في الأسواق لأسابيع، الأمل إلى القطاع المصرفي عموما بأن غيوم أزمة ائتمان محتملة قد ولت إلى غير رجعة الآن وأن ثقة المستثمرين والمودعين يمكنه ترميمها بمرور الوقت.

ونصح فريق من الخبراء المكلفين من قبل وزارة المالية السويسرية بتعزيز الأدوات التي تتيح إدارة أزمات كهذه، وزيادة الاحتياطات المالية لمؤسسات من هذا الحجم لأنها لم تكن كافية في حالة كريدي سويس، وعدم التعويل كل مرة على حل يسير يتيح تفادي كارثة.

واعتبر وليام دادلي، الذي تم تكلفيه بوضع خطة لإنقاذ ليمان براذرز، أن الأزمات التي شهدها العام الجاري كانت أكثر وضوحا مقارنة بأزمة 2008، وقال “كنا نعرف بالتحديد لماذا تواجه هذه المؤسسات صعوبات”.

وبالنسبة إلى دادلي الذي كان نائبا لرئيس الاحتياطي الأميركي خلال الأزمة المالية العالمية فإن خلف ليمان براذرز كانت مجموعات أخرى تواجه صعوبات، مثل أي.آي.جي، وربما كان عليه أن يكون أكثر حزما، لكنه أكد لفرانس برس أنه “ربما كان قد فات الأوان”.

خيار الاستحواذ

في أعقاب انهيار ليمان براذرز عرفت عمليات الاستحواذ زيادة مطردة. فبين سبتمبر وأكتوبر 2008 استحوذ بنك أوف أميركا على ميريل لينش لقاء 50 مليار دولار، ومصرف لويدز البريطاني على هاليفاكس بنك أوف اسكتلند لقاء 12.2 مليار دولار.

كما اشترى سانتاندير الإسباني الشبكة المصرفية لمجموعة برادفورد أند بينغلي البريطانية، وبي.أن.بي باريبا الفرنسي على فورتيس فيبلجيكا ولوكسمبورغ مقابل 20.3 مليار دولار.

وقال كزافييه موسكا، المدير العام المنتدب لمصرف كريدي أغريكول والمدير العام السابق للخزانة الفرنسية لدى انهيار ليمان براذرز، لوكالة فرانس برس إن “الأزمة قامت بعملية تنظيف وقضت على اللاعبين الأكثر هشاشة”.

ع
في أعقاب انهيار ليمان براذرز عرفت عمليات الاستحواذ زيادة مطردة من قبل البنوك لبناء جدار حماية ضد الصدمات

واعتبر موسكا أن أوروبا استفادت من الانهيار المالي لعام 2008 بدرجة أقل من الولايات المتحدة “حيث كانت هذه الأزمة فرصة للحكومة الأميركية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي”.

وأشار دافيد بنامو، مدير الاستثمارات لدى أكسيوم، إلى أن قطاع مصارف الأعمال تهيمن عليه حاليا المؤسسات الأميركية التي “استفادت من بعض التباينات في القوانين للاستحواذ على حصص من السوق في أوروبا”.

وأعاد انهيار بعض البنوك الأميركية في الربع الأول من 2023 وتعثّر كريدي سويس إحياء المخاوف بشأن متانة القطاع المصرفي عالميا.

وبالنسبة إلى موسكا هذه الأزمات الصغيرة هي دليل على ضرورة الإبقاء على القواعد الناظمة لعمل القطاع المالي لتفادي “أي عودة إلى الخلف”.

ولدى وصوله إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة قرر دونالد ترامب إعفاء البنوك المحلية، باستثناء الكبيرة منها، من ضرورة التقيد بالعديد من القواعد والقيود التي باتت نافذة بعد أزمة 2008، ما تسبّب في نهاية المطاف باضطرابات 2023.

وإزاء هذه الخلاصة اقترحت الهيئات الناظمة للقطاع المصرفي الأميركي في أواخر أغسطس الماضي إجراءات لتعزيز متانة المؤسسات متوسطة الحجم.

وأكد دادلي أن البنوك الكبرى “تخضع لأنظمة أكثر تشددا مما كانت عليه في 2007 و2008”. وأضاف “ثمة عمل إضافي يجب القيام به لكننا في وضع أفضل”.

وكان من الممكن إنقاذ ليمان من التعثر خلال عملية بيع منظمة إلى باركلايز، إلا أن البنك البريطاني “حصل على سعر أفضل بكثير” للأصول الرئيسية لليمان في إجراءات الإفلاس، كما يقول أوليفييه بود المحامي الذي كان يعمل في البنك الأميركي المنهار.

وترك بود في 2006 منصبه كنائب للرئيس ومساعد المستشار القانوني العام لامتعاضه من لجوء المدراء الكبار إلى ممارسات تُضخّم تعويضاتهم من دون كشف ذلك بشفافية أمام المستثمرين.

وقال إن “ليمان براذرز لم يقدم على أي تغيير في أنظمته حتى بعدما أجرت الهيئات الناظمة تعديلات واسعة على القواعد المرعية في 2008 لتحسين الشفافية”.

وأضاف “بقي الأمر مخبأ وكان مشينا بالنسبة إلي، لذا قررت أن أقوم بالتبليغ” عن هذه الممارسات.

ولكن سرعان ما دبت حالة من الشعور بالفوضى والحزن والصدمة في نفوس جميع الموظفين خلال منتصف سبتمبر 2008، عندما بدأت خيوط الإفلاس تظهر مع مغادرة الرئيس التنفيذي لليمان براذرز في ذلك الوقت مقر البنك.

11