بريس أوليغي نغيما: الأولوية للإصلاحات لكن بلا تسرّع

الجنرال الذي أطاح بحكم آل بونغو في الغابون.
الجمعة 2023/09/08
بريس أوليغي نغيما رئيسا للمرحلة الانتقالية

سيبقى يوم 30 أغسطس 2023 ذكرى مفصلية في تاريخ الغابون الحديث، باعتباره يرمز إلى الإطاحة بحكم أسرة بونغو التي وضعت يدها على السلطة في البلاد منذ العام 1967 عن طريق الأب عمر بونغو، ثم ابنه علي الذي ورثه على رأس الدولة في العام 2009، والذي كان بدوره يستعد لتوريث ابنه نورالدين.

كل شيء يتغير في ذلك البلد الذي يحتكم على ثروات طائلة، ويعاني من النهب المستمر لمقدراته، والذي أصبح سابع بلد أفريقي يشهد انقلابا عسكريا خلال السنوات الثلاث الماضية، بما يشير الى طبيعة التحولات التي تعرفها القارة السمراء، وبخاصة غربها المحكوم باجترار زمن الاحتلال الفرنسي من خلال القوى الداخلية والخارجية التي لم تدرك بعد أن لا شيء يبقى على حاله إلى الأبد.

وبطي صفحة آل بونغو ظهر في صدارة المشهد الجنرال بريس أوليغي نغيما الذي تم اختياره رئيسا للمرحلة الانتقالية. وهو من مواليد العام 1975 لأب كان ضابطا مخلصا للرئيس عمر بونغو، لاسيما أنهما يتحدران من نفس المنطقة بإقليم أوغوي العليا الواقعة في أقصى جنوب شرق مقاطعات الغابون التسع، والتي تعرف بصناعاتها الأساسية في التعدين حيث يوجد المنغنيز والذهب واليورانيوم.

وتنتمي أسرة نغيما إلى شعب الفانغ وهو أكبر مجموعة عرقية في الغابون إذ تشكل حوالي ربع السكان، بينما تمثل حوالي 85 في المئة من إجمالي سكان غينيا الاستوائية، فيما تنتمي أسرة بونغو الى أقلية “باتيكي” صغيرة العدد.

وتلقى نغيما دراسته الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه، وبعد حصوله على شهادة البكالوريا اتجه للدراسة في جامعة عمر بونغو في العاصمة ليبريفيل، قبل أن يتم توجيهه لمواصلة دراساته العسكرية في الأكاديمية الملكية العسكرية بمكناس وهي الأكاديمية الخاصة بتقديم التكوين الأساسي لضباط المشاة بالقوات المسلحة الملكية المغربية وتصنف من أقدم وأرقى الكليات العسكرية بأفريقيا.

خلال عمله على رأس الحرس الجمهوري أثبت نغيما ولاء منقطع النظر للرئيس علي بونغو، لكن الأحداث التي عرفتها البلاد كانت كفيلة بتغيير المواقف

ونظرا للعلاقات الوطيدة بين والده والرئيس عمر بونغو، وبعد أن تابع دورة تدريب الكوماندوز في مركز تدريب الكوماندوز في الغابة الاستوائية ببلاده، عيّن نغيما في العام 2005 في الحرس الرئاسي مع حظوة خاصة لدى القائد الأعلى.

ويعتقد البعض أن الرئيس علي بونغو الذي تسلم مقاليد الحكم بعد وفاة والده في العام 2009 سعى الى استبعاده عن دائرة القرار لمدة 10 سنوات حيث تم إرساله للعمل في مهمة ملحق عسكري بسفارتي بلاده في المغرب والسنغال، لكن الترتيبات التي فرضت نفسها لاحقا جعلته يظهر في الصورة بشكل واضح بضغط من رئيس الأركان برايس لاكروش أليهانجا الذي كان يرتبط معه بعلاقة صداقة منذ سنوات الطفولة، وفي عام 2019 عاد نغيما إلى ليبرفيل ليتولى منصب رئيس المديرية العامة للخدمات الخاصة (DGSS)، وهي استخبارات الحرس الجمهوري، وقد أثبت جدارته بالمهمة الأمنية بالغة الأهمية، فتمت ترقيته في أبريل 2020 لمنصب قائد الحرس الجمهوري خلفا للجنرال فريديرك بونغو الأخ غير الشقيق للرئيس.

والحرس الجمهوري هو جهاز النخبة التابع لوزارة الدفاع، وقد تم تأسيسه وفق القرار المؤرخ في 24 يوليو 1964، وتشمل مهامه السهر الدائم على أمن وحماية رئيس الجمهورية داخل التراب الوطني وخارجه، والعمل، بالتعاون مع قوات الدفاع والأمن الأخرى، على ضمان حماية بعض كبار مسؤولي الدولة والشخصيات الأجنبية التي تزور الغابون والقادة السياسيين وكذلك الممتلكات والمباني العامة، وتقديم الأوسمة العسكرية خلال احتفالات الجمهورية، وكذلك خلال الجلسات الرسمية للبرلمان، والمشاركة في بعثات العون والمساعدة للسكان في حالة وقوع كارثة خطيرة أو كارثة عامة، والتدخل في حفظ النظام والسلم المدني فقط في حالة تجاوز قوات الفئة الأولى وبناء على طلبات تنظيمية، بالإضافة إلى المشاركة في مهام الدفاع عن سلامة التراب الوطني.

وخلال عمله على رأس الحرس الجمهوري، أثبت نغيما ولاء منقطع النظر للرئيس علي بونغو، لكن الأحداث التي عرفتها البلاد كانت كفيلة بتغيير المواقف، فالرئيس تعرض لأزمات صحية متلاحقة، لعل أبرزها إصابته بجلطة دماغية، حيث تم آخذه في 24 أكتوبر 2018 وعلى جناح السرعة لتلقي العلاج في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالمملكة العربية السعودية، وبعد شهر، ونظرا إلى أن صحته لم تتحسن في الرياض، جرى نقله إلى الرباط لمتابعة حالته الصحية برعاية خاصة من صديق طفولته العاهل المغربي الملك محمد السادس، فيما كانت تروج إشاعات في المجتمع الغابوني وخاصة مواقع التوصل الاجتماعي تزعم وفاة الرئيس.

القطع مع توريث السلطة

وعود تنتظر تنزيلها على أرض الواقع
وعود تنتظر تنزيلها على أرض الواقع

منذ ذلك الوقت، تم النظر إلى الرئيس بونغو على أن وضعيته الصحية لا تسمح له بممارسة مسؤولياته كرئيس للدولة يكاد يضع في يده كل صلاحيات السلطة التنفيذية، وكان واضحا أنه مستعد لإبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حين تهيئة الظروف لتوريث الحكم لابنه نورالدين المولود في مارس 1992 والذي يحمل الجنسية الفرنسية إلى جانب الجنسية الغابونية باعتبار أمه فرنسية الجنسية وهي سيلفيا فالنتين من مواليد العام 1963 والتي كان لوالدها إدوارد حضور في تونس والكاميرون قبل أن ينتقل إلى ليبر فيل في العام 1984 وبعد عامين أسس شركة للتأمين سرعان ما حققت نجاحا وانتشارا واسعين وجعلت منه واحدا من أبرز الشخصيات العامة في البلاد.

وفي العام 1988، التقت بعلي بونغو، ودخلت معه في علاقة عاطفية ومساكنة نتج عنها إنجاب نورالدين وجلال وبلال، ثم كان الزواج الرسمي عام 2000 بعد عام من تولي علي بونغو الحكم كوريث لوالده الحاج عمر، فشرعنة العلاقة يفسح المجال أمام الابن الكبير للاستعداد لأخذ دوره في منصب الرئيس بعد جده والده، وقد أسلمت سيلفيا وبرز دورها الاجتماعي والثقافي خاصة في مقاومة العنف المسلط على المرأة وفي مساعدة الأرامل ودعم المشاريع المتعلقة بالأطفال فاقدي السند.

وإلى جانب لقبه الأسرى، ألحق نورالدين لقب والدته باسمه، ليصبح معروفا باسم نورالدين بونغو أونديمبا فالنتين، وقد حظي بالتدريب في مؤسسات مرموقة بالمملكة المتحدة، ودرس العلوم السياسية والعلاقات الدولية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن، وبعد تخرجه، واصل دراسته في كلية لندن للأعمال حيث أتقن مهاراته في الإستراتيجية والتحليل المالي، بالإضافة إلى المحاسبة.

وفي عام 2014 بدأ مسيرته المهنية بأن أصبح نائب المدير العام في شركة أولام إنترناشيونال في ليبرفيل، وهي مجموعة سنغافورية للأغذية الزراعية استثمرت 2 مليار يورو في الغابون بين عامي 2010 و2019 ثم تخصصت في الصناعة الزراعية وأشرفت بشكل خاص على تطوير مزارع زيت النخيل التي أصبحت توفر فرص عمل مهمة.

وإلى جانب مهامه في أولام، شارك نورالدين في توسيع المنطقة الاقتصادية الخاصة والتي تعتبر جزءا أساسيا من الاقتصاد الغابوني، من خلال مشاريع رائدة تعتمد على المعالجة المحلية للمواد الخام من أجل خلق المزيد القيمة المضافة، وهو ما ينطبق بشكل خاص على قطاع الأخشاب مع تطور نشاط تصنيع القشرة والخشب الرقائقي والأثاث، مما أدى إلى خلق الآلاف من فرص العمل، كما دخل نورالدين مجال الاستثمار في المطاعم من خلال إنشاء سلسلة “مايانا فود”.

Thumbnail

وفي عام 2019، تم تعيينه داخل مؤسسة الرئاسة، حيث كلفه والده بمراقبة رئيس الأركان بريس لاكروش أليهانغا. وبعد أشهر قليلة، في ديسمبر من ذلك العام، أعلن عن الإطاحة برئيس الأركان وعدد من كبار المسؤولين في “عملية العقرب” التي كشفت عن ارتفاع مستويات الفساد في أغلب مؤسسات الدولة بما في ذلك مؤسسة النفط، وتبين أن أغلب كبار المسؤولين متورطون بمن في ذلك زوجة الرئيس وابنها الأكبر اللذان كانا يحصلان على الكثير من المال إما كجزء من رعاية مفترضة أو في شكل مكافآت يتم تحديدها على أساس تقديري.

وأثبتت التحقيقات القضائية أن كل الشعارات المرفوعة بخصوص الحكم الرشيد في عهد الرئيس علي بونغو كانت مجرد أوهام، وأن مراقبة قنوات تمويل بعض المنظمات، وخاصة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، لا تنطبق على الجميع.

وهو ما زاد من مستويات الغضب الشعبي في بلد يتميز بموقع مهم وطبيعة خلابة وثروات طائلة ومتنوعة المصادر، فيما يبقى المواطن العادي يواجه الحرمان وأمامه الشركات متعددة الجنسيات تستفيد مما كان يمكن أن يحوّل الغابون إلى واحدة من أكثر دول العالم ثراء ورخاء وسعادة لأهلها.

أسرة نغيما تنتمي إلى شعب الفانغ وهو أكبر مجموعة عرقية في الغابون إذ تشكل حوالي ربع السكان، بينما تمثل حوالي 85 في المئة من إجمالي سكان غينيا الاستوائية

وفيما قام نغيما بإصلاح كبير في قسم التدخلات الخاصة (SIS)، وهو وحدة خاصة وضعت تحت السلطة المباشرة للرئيس، وزيادتها من حوالي الثلاثين إلى أكثر من 300 عنصر، فإنه قام بتأكيد موهبته الفنية عندما بادر بتأليف أغنية تضمنت عبارة “سأدافع عن رئيسي بالشرف والوفاء”.

كما أثبت قدراته التجارية حيث بات يمتلك عدة عقارات في الولايات المتحدة تبلغ قيمتها أكثر من مليون دولار بحسب تحقيق أجراه عام 2020 مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP)، ففي عام 2018، على سبيل المثال، اشترى عقارا في سيلفر سبرينج بولاية ماريلاند بمبلغ 447 ألف دولار نقداً.

وفي 5 ديسمبر 2019، تم تعيين نورالدين بونغو في منصب المنسق العام للشؤون الرئاسية والذي يوصف بأنه “رئيس الأركان الأعلى” و”الرقم الثاني في النظام”، وفي مارس 2020، تم انتخاب نورالدين عضوا في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الغابوني، وفي يونيو 2020، وبتوجيه من والده، قاد نورالدين بونغو فريق عمل بشأن الديون الداخلية للبلاد والتي تقرر إلغاء ثلثيها أي أكثر من 623 مليار فرنك أفريقي (ما يساوي مليار دولار اميركي). وفي سبتمبر 2021 عينه والده مستشارا إستراتيجيا داخل الحزب الديمقراطي الغابوني.

وكانت جميع المؤشرات تدل على أن ابن الرئيس في طريق مفتوحة إلى كرسي الرئاسة بتهيئة خاصة من والده وبدعم مباشر من فرنسا ومن الطبقة السياسية ورجال الأعمال المستفيدين من طبيعة النظام القائم في البلاد.

ويعتبر نورالدين بونغو أحد أهم الأثرياء الشباب في أفريقيا، وهو يمتلك عددا من المنازل الراقية في فرنسا وإنجلترا ولديه استثمارات واسعة النطاق، كما أن النظر في كل الملفات المطروحة على مكتب الرئيس، بما في ذلك المالية والاقتصادية منها، أصبح جزءا من اختصاصاته. لكن التحولات الاقليمية والدولية كانت تلقي بظلالها على البلاد، وهو ما لم يفهمه الرئيس وأسرته المتمسكة بمقاليد السلطة وامتيازات الحكم.

طي الصفحة

واثق الخطوة يمشي
واثق الخطوة يمشي 

 تولى نورالدين إدارة الحملة الانتخابية لوالده علي بونغو أونديمبا الذي ترشح لاستحقاق 26 أغسطس 2023 للحصول على عهدة ثالثة بعد أن ظل في السلطة لمدة أربعة عشر عاما، وفي 30 أغسطس، أعلن عن فوزه في الانتخابات التي بلغت نسبة المشاركة فيها 56.65 في المئة بالحصول على 64.27 في المئة من الأصوات.

ووفقا للهيئة الانتخابية الوطنية، فقد هزم بونغو، في جولة واحدة، منافسه الرئيسي ألبرت أوندو أوسا، الذي حصل على 30.77 في المئة فقط من الأصوات، بالإضافة إلى اثني عشر مرشحا آخرين، لم يجمعوا سوى الفتات.

وبعد دقائق فقط من إعلان إعادة انتخاب بونغو في الساعة 3:30 صباحا بتوقيت غرب أفريقيا، ظهر على شاشة التلفزيون المحلي (الغابون 24) عدد من العسكريين للإعلان عن الإطاحة بنظام آل بونغو.

وقال نغيما إنه يتحدث نيابة عن “لجنة الانتقال واستعادة المؤسسات”، وعزا ذلك إلى “الحكم غير المسؤول وغير المتوقع” الذي أدى إلى “تدهور مستمر في التماسك الاجتماعي، مما يهدد بدفع البلاد إلى الفوضى”.

وعند سؤاله بشأن الإعداد لهذا الانقلاب وما إذا كان منذ فترة طويلة، أم أن إعلان نتائج انتخابات 26 أغسطس وإعلان فوز علي بونغو هما اللذان دفعا ضباط الجيش للقيام بهذا التحرك، رد قائلا “أنتم تعلمون أنه يوجد استياء في الغابون، وبعيدا عن هذا الاستياء، هناك مسألة مرض رئيس الدولة”، مردفا “الجميع يتحدث عن ذلك الأمر، لكن لا أحد يتحمل المسؤولية. وليس لديه الحق للبقاء في منصبه لولاية ثالثة. حدث تجاهل للدستور، وطريقة الانتخابات في حد ذاتها لم تكن جيدة. لذلك قرر الجيش طي الصفحة، وأن يرتقي إلى مستوى مسؤولياته”.

في عام 2019 عاد نغيما إلى ليبرفيل ليتولى منصب رئيس المديرية العامة للخدمات الخاصة وقد أثبت جدارته بالمهمة الأمنية بالغة الأهمية

وتم الإعلان رسميا عن إلغاء الانتخابات الأخيرة، وحل مؤسسات الدولة، وإغلاق حدود البلاد، فيما جرى إخضاع الرئيس المخلوع للإقامة الجبرية، ووضع ابنه نورالدين قيد الاحتجاز صحبة عدد من المسؤولين بتهم تتراوح بين الخيانة العظمى والفساد ونهب ثروات الشعب الغابوني.

ووعد الرجل القوي الجديد في الغابون بإصلاحات دستورية تجعل مؤسسات الدولة “أكثر ديمقراطية” و”أكثر احتراماً لحقوق الإنسان”، لكن “بلا تسرّع”.

وفي خطاب أمام أعضاء السلك الدبلوماسي نقله التلفزيون، قال رئيس السلطات الانتقالية إنّ قرار “حلّ المؤسّسات هو أمر مؤقت”.

وأضاف أنّ الهدف هو “إعادة تنظيم هذه المؤسّسات بحيث تصبح أدوات أكثر ديمقراطية وأكثر انسجاماً مع المعايير الدولية على صعيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والديمقراطية ودولة القانون، وأيضاً مكافحة الفساد الذي بات أمراً شائعاً في بلادنا”.

وإذا كان الجنرال يحظى بدعم أقرب رجاله، فإنه على أيّ حال قد أثار غضب المجتمع الدولي. وقد أدان الاتحاد الأفريقي وباريس وبرلين والكومنولث الانقلاب في الغابون. لكن واشنطن، التي تقول إنها تراقب الوضع عن كثب، رفضت التعليق على إعادة انتخاب الرئيس علي بونغو. وكانت ألمانيا أيضًا متشككة بشأن “شفافية وشرعية الانتخابات الأخيرة”، بينما أدانت الانقلاب.

6