تهنئة بمستوى التعزية، والعكس

يفغيني بريغوجين بطل ومجرم. مقتله يثير الأسى والبهجة معا في النفوس التي أرادت منه شيئا وآخر، فحصلت منه على الشيء والآخر.
وسواء سقطت طائرته بصاروخ، أم بخلل “فني”، أم بكليهما معا، فإنه أمر لا يستحقه إلا الأبطال والخونة. وهو يدل على رقي مكانته في المشروع الإمبراطوري الروسي الجديد؛ مشروع التوسع في أراضي الغير عن طريق “الشيء والآخر”، الجندي المحترف والمجرم المحترف. في ثنائية تظل تجمع بين الخائن والبطل حتى ينقضي الأجل.
ربما كانت لروسيا صورة أخرى. إلا أنها تغيرت منذ أن اعتلى بطرس الأكبر عرشه من جديد. أصبح القتل هو المجد نفسه. وليس بالضرورة هو السبيل إليه.
تلك هي الصورة التي تريد روسيا العظيمة أن تقدمها عن نفسها الآن. صورة تجمع بين ماضي أمة أنتجت ليو تولستوي، وحاضر أنجب يفغيني بريغوجين. وبين الرقي الإنساني الشامل كما جسده فيودور دوستوفسكي، والانحطاط الشامل كما جسده أبطال وخونة مثل سيرغي شويغو وديمتري ميديفيدف وسيرغي سوروفيكين. جزارون بعد بعضهم، لأمة عظيمة، سقطت من السماء كما سقطت طائرة بريغوجين مثل نيزك اختار، بمحض إرادته، أن يحترق.
سوف يمكن للرئيس فلاديمير بوتين، المولع بالأماكن المرتفعة التي يسقط منها معارضوه، أن يسجل نقطة أعلى من غرفة في الطابق الخامس لفندق “ينتحر” منها مَنْ كان يتوجب عليهم أن ينتحروا. يليق ببريغوجين، أن “ينتحر” وهو محلّق في السماء. حاول أن يطاول السماء بطموحاته، فسقطت السماء عليه. خرّ محترقا، كما يخر النيزك. واختفى من الوجود كما تختفي حشرة. حتى لم يعد له أثر.
تلك هي الصورة التي تريد روسيا العظيمة أن تقدمها عن نفسها، صورة تجمع بين ماضي أمة أنتجت ليو تولستوي وحاضر أنجب يفغيني بريغوجين بين الرقي الإنساني الشامل والانحطاط الشامل
لن يجد جثمانه سبيلا لكي يُشيّع أو يدفن، لا كمجرم ولا كبطل. الحزن على فقدانه بحجم الفرح بموته. طائفة من المشاعر سوف تذكره كرجل قاتل بشراسة تليق بمكانة روسيا في فلسفة ألكسندر دوغين. وطائفة أخرى، سوف تذكره عندما تمرد واستولى على مقاطعة روستوف قبل أن يحاول التوجه إلى موسكو ليهز عرش العظمة. شيئان كانا يبدوان متناقضين، ولكنهما واحد.
لم يعد بوسع روسيا أن تقدم نفسها إلا على نحو ما يمثله ثنائي البطل الخائن أو الخائن البطل. بعضها يتلقى التعازي، والآخر يتلقى التهنئة، في مأتم عرس واحد، لبلد تضاعفت أوهامه، حتى أصبح خطرا على نفسه، أكثر مما يشكل خطرا على غيره.
بلد ضخم من ناحية المساحة، تضاءلت الروح الإنسانية فيه حتى أصبحت فاغنر عنوانا لطبيعته الجديدة. وحتى أصبح القتلة يمارسون نفوذهم بالقتلة. فيسقط واحد تلو الآخر من طابق خامس، إذا تنفس بكلمة تثير خشية البطل الذي خان تلك الروح. فكيف إذا أصبح الخائن مدججا بالدبابات والصواريخ.
جدير بخائن من هذا النوع أن يسقط من السماء. كما كان جديرا بالبطل الذي “حرر” باخموت أن يرتفع إليها.
“دماغ بوتين” و”طباخ بوتين”. كلاهما كان يغذي الطموح نفسه. وكلاهما كان يحمل السم نفسه، لأمة لم تعرف زؤاما أكثر من ماضيها المجيد نفسه.
سوف يتلقى الرئيس بوتين التعازي والتهاني في آن معا. “نأسف لسقوط بطل دافع عن عظمة روسيا، بتجنيد مجرمين ومرتزقة. ونفرح معكم بسقوط خائن، تجرّأ يوما أن يشكل تهديدا لصورة البطل الأوحد”.

أبطال العظمة يعظمون معها، حتى ولو كانوا حثالة مثل بريغوجين. الحثالة تعظم على مرآة لا ترى في نفسها إلا الأبهة المفرطة. مرايا ولوحات من ذهب، على جدران وسقوف من الفن العتيد، تجعل كل مَنْ يمرّ من تحتها أو في جوارها قادرا على أن يتمثل نفسه كجزء من الأسطورة. حتى ليصبح فلاديمير بوتين بطرس الأكبر، وحتى ليصبح طباخه رئيسا لأركان حرب فلسفة العظمة.
بطلٌ، تمكن في باخموت، ما لم يتمكن منه فاليري غيراسيموف، رئيس أركان “القوات المشتركة”. استعملت تلك القوات كل ما لديها من أسلحة. ولكن نقصها سلاح الجرأة على الاقتحام، واختراق الخنادق بمجرمين لا يخسرون شيئا، إلا أغلال السجون التي جاؤوا منها.
وخائن، لأنه صدّق جنون العظمة، فاندفع فيه، حتى صار كالوحش الذي يهدد مَنْ ركّب أجزاءه وصنعه. فرانكنشتاين آخر خاطه بوتين من بقايا جثث، فانقلب عليه، ليتحداه بما آمن به هو نفسه.
نزعة العظمة القومية الروسية تذبح نفسها الآن. إنها تتلقى التعازي بمقتل بريغوجين، بينما يتلقى بوتين، باسمها نفسه، التهنئة لأنه تخلص من بطل من أبطالها الخونة
الصراع الوحشي بين أخوة الدم، ليس عجيبا في روسيا. إنه هو روسيا التي حارب أبطالها وخونتها بعضهم أكثر مما حاربوا ضد الإمبراطوريات الأخرى. والمواقع تظل تتبدل. وتعتمد الصورةُ ووصفها على مَنْ يُلقي القبض على الكرملين، فيكون ما شاء أن يكون.
موظف صغير، ارتقى السلم سريعا بفضل رئيس مخمور مثل بوريس يلتسن، لا يبدو وكأنه هو نفسه فلاديمير بوتين. فلماذا أصبح عجيبا على بريغوجين أن يكون أقل شأنا. خاض مواجهة مع الخونة الذين قصفوا معسكرات قواته حتى سبح جنوده بدمهم، بعد انقضاء المعركة في باخموت. قصفوه بطلا، لأنهم خونة. وتغلبوا عليه خائنا، لأنهم أبطال عندما سار في الطريق إلى موسكو ليبحث عن العدالة.
ولكن، أيّ عدالة، كان يمكن لمجرم، يقود حشودا من السفلة، أن يطلب؟ وأيّ بطولة كان يمكن لغيره أن يضع على مذبح التضحية في الكرملين؟
سقط بريغوجين بما ارتفع به. آمن ببوتين كما لم يؤمن بقديس قبله حتى اكتشف الخدعة. خدعة الصورة المزيفة لرجل يقود أبطالا خونة. وينقاد لهم انقياد خائف يرتدي ثياب أسد.
هؤلاء هم الذين سوف يُلحقون الهزيمة اللائقة به. ولكن ليس لأن الصورة اهتزت وارتعش العرش. بل لأنه ظل يقتل على نحو ما تفعل فاغنر بمَنْ يتمرّدون عليها.
يخافونه، نعم. ويطيعونه، نعم. ويؤمنون بما يجن به، لكي لا يجدوا أنفسهم في صف الخونة فيسقطوا “منتحرين” من الطابق الخامس في غرفة فندق، أو من سماء أعلى.
نزعة العظمة القومية الروسية تذبح نفسها الآن. إنها تتلقى التعازي بمقتل بريغوجين، بينما يتلقى بوتين، باسمها نفسه، التهنئة لأنه تخلص من بطل من أبطالها الخونة.
اقرأ أيضا: