معاذة العنبرية في بريطانيا

في أشهر مطاعم "بيتزا أكسبرس" بضاحية تويكنهام (الجنوب الغربي للعاصمة البريطانية)، يبدو أنه أصبح يتعين على من يقصدون هذا المطعم للعشاء، اختيار طعامهم وتناوله تحت جنح الظلام.
قبل أن أهم بمطالعة كتيّب الطعام، فوجئت بالأنوار تنطفئ، ولم يبق إلا نور خافت منبعث من داخل مطبخ المطعم، فاضطررت إلى أن أطلب البيتزا والمشروب، من دون مطالعة قائمة الطعام التي قدمتها لي النادلة.
تعجب زوجي لهذا الأمر الذي لم نعهده في سلسلة "بيتزا أكسبرس"، وطلب من النادلة إنارة الأضواء، حتى نتمكن من قراءة كتيب الطعام، لكنها عزت الأمر إلى وجود عطب وأنّهم بصدد إصلاحه.
انتظرنا أكثر من ربع ساعة، وبدل أن تشتعل الأضواء حضرت البيتزا، ولم تكن تحمل من الاسم غير المسمى، فقد كانت "مارغريتا"، التي طلبناها خالية من مكوناتها المعتادة، ولا يوجد بها سوى بعض صلصة الطماطم وقليل من الجبن وورقة ريحان يتيمة، لمحناها من بصيص النور المنبعث من المطبخ، بالطبع كانت أمامنا الفرصة للمغادرة، لكن الحياة علمتنا ألا نرى الأمور من ظاهرها، فلا أحد يتعلم دون معرفة كل ما هو جديد، أو تجربة ما هو غير معتاد.
أنهينا طعامنا، ونحن نتحسس المكان حولنا ومن دون الاعتماد على الضوء كما في السابق مثل بقية رواد المطعم الذين بقوا يتهامسون عن تناول وجبة نهاية الأسبوع تحت جنح الظلام، والأهم من هذا كله أننا تعلمنا التعايش مع ذلك الظرف، وهذا هو بيت القصيد.
ما يجهله الكثيرون على الأغلب، أن تناول الطعام في الظلام يمنع المرحلة "الرأسية" من الهضم، التي تؤدي إلى إفراز اللعاب والإفراج عن عصائر المعدة، عند النظر إلى الطعام، وتنتج عنها مجموعة من التغيرات الفسيولوجية، تفسح مساحة أكبر في المعدة لما سنلتهمه منه.
من هذا المنظور، فالأشخاص يشعرون بأنهم أكثر امتلاء عندما يأكلون دون رؤية الطعام، وربما يرجع ذلك إلى أنهم يركزون انتباههم على حواس اللمس والذوق أكثر من الرؤية.
لا يشكل ذلك أمرا سيئا في حد ذاته، فـ"الأكل بالعينين" مجرد عادة يرغب الكثيرون في الإقلاع عنها، وقد تبين مرارا وتكرارا أن الطعام الجذاب في منظره وشكله وألوانه هو الذي يدفع إلى التهام كميات كبيرة، حتى من دون أن ندرك مكوناته.
بدا لي هذا الأمر غريبا عندما فكرت فيه، لا أعتقد أن هناك مبادرة طيبة لمطاعم "بيتزا أكسبرس" لتغيير تصورات روادها عن ضعاف البصر، كما لا يتعلق الأمر إطلاقا بمساعدة الناس على تناول كميات أقل من البيتزا.
بطبيعة الحال، هناك أسباب لحالة التقشف التي أصبحت متفشية ليس في هذه المطاعم فحسب، فالتأثير واضح في كل شوارع لندن والبلدات الصغيرة والمدن، وذلك في ضوء أن الأزمة الاقتصادية قد ضربت قطاع الضيافة وأدت إلى قفزة كبيرة في أعداد المطاعم المتعثرة، ولذلك فإن رغبتهم في خفض التكاليف وتفادي ارتفاع أسعار الطاقة والإيجارات وتوفير الوجبات بأقل التكاليف، أصبحت أشبه بقصة معاذة العنبرية التي رواها الجاحظ في كتابه "البخلاء"، فمعاذة لم يهدأ لها بال إلا بعد أن وضعت جميع الأمور في مواضعها ووفتها غاية حُقوقها في كيفية التصرف في خروف العيد، فالقرن صنعت منه خطافا ثبتته في سقف المنزل وعلقت فيه مؤونتها خوفا عليها من الفأر والحشرات، وأمّا المصران فصنعت منه أوتارا لمندفة القطن، وأما الرأس فبعد أن طبخته وارتفع دسمه استعملته لإيقاد المصباح وطبخ العصيدة، وأما العظام فأوقدت بها النار، وأمّا البعر فعوضت به الحطب، والجلد صنعت منه جرابا، وأما الدم فدبغت به قدورها…
كل ما أخشاه أن تصبح البيتزا سلعة ترفيه في المستقبل، فيحضرون لي رغيفا من الخبز مكتوبا عليه اسم البيتزا ومكوناتها بالقلم.