باحثون من عدة دول ينجزون أول موسوعة للموسيقى والموسيقولوجيا في تونس

عمل جماعي يرصد تاريخ الموسيقى وتداخلها مع التاريخ والأفكار.
الخميس 2023/08/24
الموسيقى التونسية وثيقة ثقافية متوارثة

تحفل تونس بالعديد من الأنماط الموسيقية التي تختزل تاريخا كاملا، إذ تتجاوز الموسيقى الرؤية القاصرة التي تعتقد أنها حالة تقنية أو عرضية، إذ الموسيقى لها علاقة وثيقة بالتطور الثقافي والحركات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى بالمناخ وغيرها من تغيرات، وهذا ما رصدته الموسيقى في تونس عبر قرون لتكون وثيقة حية متجددة كما نرى في الموسوعة الجديدة التي تعتبر إنجازا علميا.

تونس - لا يمكن فهم وتحليل العمل الموسيقي بمعزل عن باقي الأجناس المعرفية والعلمية، وهو ما تؤكده جل الأطروحات منذ الحقب التاريخية القديمة، ومن هنا تأتي أهمية الموسيقولوجيا، التي اهتم بها الباحثون في الفنون الموسيقية.

وفي بادرة أولى من نوعها، صدر هذه الأيام كتاب “موسوعة الموسيقى والموسيقولوجيا في تونس”، وهو ثمرة عمل مخبر البحث في الثقافة والتكنولوجيات الحديثة والتنمية بدعم من المعهد العالي للموسيقى وجامعة تونس. وقد صدر هذا المؤلف الجماعي تحت إشراف وتأطير مدير المعهد العالي للموسيقى سمير بشة، وتصدّره تقديم بقلم الباحث الفرنسي جان جاك ناتيي. ويعتبر هذا الإصدار وفق المختصين، حدثا علميا في تونس لقيمته العلمية وأسسه المنهجية.

تتضمن "موسوعة الموسيقى والموسيقولوجيا في تونس”، الصادرة  عن دار “سوتيميديا” للنشر والتوزيع، مجموعة من المقالات العلمية بثلاث لغات (الفرنسية والعربية والإنجليزية). وتتجزأ المقالات المنشورة إلى ثلاثة محاور كبرى هي "الموسيقى منظور العلوم الإنسانية" و”تاريخ ودراسة الآلات الموسيقية" و"المقاربات العلمية والمناهج والتحليلات".

ويستعرض الباحثون في هذا الإصدار الضخم، مساهمة تونس في المعارف الموسيقية والموسيقولوجيا طوال تاريخها من العصر الحجري الحديث إلى بداية القرن الحادي والعشرين. وقد تطرقوا في هذا العمل الذي استمر إعداده نحو ثلاث سنوات، وفق ما أكده الدكتور في العلوم الموسيقية سمير بشة، إلى معظم المواضيع والمحاور تقريبا لاسيما تلك المتعلقة بخصوصيات الموسيقى التونسية ومميزاتها، وهي في علاقة بالأنثروبولوجيا وعلم الآثار والسينما والمسرح والدين واللسانيات والأدب والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وعلوم التربية وغيرها.

تعاون دولي

فن يتطور تدريجيا من جيل إلى جيل
◙ فن يتطور تدريجيا من جيل إلى جيل  

وتجمع هذه الموسوعة مقالات لباحثين وجامعيين من عدة دول وعدة تخصصات هم نيكولا مييس ومحمد زين العابدين وفرانسوا بيكار ونداء أبو مراد ومنذر عياري وجان مارك شوفيل وأنيس المدب وفرانسوا ديلالاندي وجان باسلر وسيف الله بن عبدالرزاق وسندة خياطي وأمين الزواري ووائل صمود وإقبال حمزاوي وفاخر حكيمة، إلى جانب حمدي مخلوف الذي أشرف على التصميم ومراجعة معايير البيبليوغرافيا.

ويقول سمير بشة عن هذا الإصدار "إن نشر هذه الموسوعة التي تتناول الأسس النظرية والمنهجية للموسيقى والموسيقولوجيا في تونس في بداية القرن الحادي والعشرين، هو أمر لم يكن من السهل تحقيقه إلا من خلال إرادة حقيقية في تعاون دولي ذي اهتمام علمي رفيع المستوى".

العمل الموسوعي أن هذا الإصدار يعد حدثا كبيرا في العلوم الموسيقية في السنوات الأخيرة بتونس لما يحوز عليه من مناهج بحثية وأسس نظرية قيمة
◙ الإصدار يعد حدثا كبيرا في العلوم الموسيقية لما يحوز عليه من مناهج بحثية وأسس نظرية قيمة

ويهتم بشة في هذا العمل بشكل وثيق بالمسائل الناشئة عن الفكر الموسيقي اليوم، من أجل دراسة موسيقى مختلف الحضارات والفترات المختلفة وذلك بداية من التاريخ القديم إلى الفترة المعاصرة، إيمانا منه بأن العديد من البحوث والدراسات في علم الموسيقى التي تم نشرها خلال القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، تتيح اليوم الفرصة لجمع الباحثين في علم الموسيقى من جنسيات مختلفة حول عدد معين من الإشكاليات التي تستحق الدراسة بالمزيد من المثابرة والعمق.

يعتبر الباحث جان جاك ناتيي في مقدمة هذا العمل الموسوعي أن هذا الإصدار يعد حدثا كبيرا في العلوم الموسيقية في السنوات الأخيرة بتونس لما يحوز عليه من مناهج بحثية وأسس نظرية قيمة لها عدة اعتبارات معرفية.

ويضيف "من المسلمات أن البحث الموسيقي في تونس هو علم فتي، لكن ما نلاحظه أولا عند قراءة هذا العمل أنه تمكن في غضون سنوات قليلة من الاستفادة من المحاور النظرية والمنهجية التي تم تطويرها داخل جامعة نجح باحثوها في أن يجعلوا من الموسيقولوجيا في تونس على قدم المساواة ولا تقل قيمة أو مكانة عن الموسيقولوجيا في بقية بلدان العالم".

تأتي العديد من البحوث مبنية على مستجدات مضامين ومناهج الفلسفات والعلوم المختلفة لأن كل تحول في بنية الفكر الكوني يعني آليا لحظة مخاض في كافة الضروب المعرفية المتداخلة وإن بدت لنا مختلفة، وهذا ما أدركته الإيبستيمولوجيات الحديثة المشددة على التداخل بين حقول المعرفة.

ويرى بشة أن هناك تداخلا بين الأعمال الموسيقية والعلوم والفلسفات وجل الفنون. ولذ فمن الطبيعي جدا أن تتطور الإبداعات الموسيقية تدريجيا وفقا للتحولات المعرفية والسوسيو – ثقافية والاقتصادية والسياسية، فهي ليست حقول دلالية مغلقة وإن عانقت أقصى درجات الخلق لأنها متجددة بالضرورة نتيجة لتحولات حاضنتها الإيبستيمية والاجتماعية.

خطاب جديد

◙ فن عريق يتداخل مع تاريخ الإنسان
◙ فن عريق يتداخل مع تاريخ الإنسان

فهي بوجيز العبارة ظاهرة بلغة علماء الاجتماع، ومعيش سيكولوجي حسب معجم المحلل النفسي، وتقنية علاجية في مخبر الطب النفسي، وفسحة للتنعم بلا فتور وعطلة الروح للفيلسوف المتأمل في تجليات خلقها، وهي المجال الذي تستثمر فيه كل مكونات النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. إنها بالاختزال الشديد لحظة إبداعية مرتهنة بآلياتها وخلفياتها التي تتداخل فيها كل العوامل المنتجة للمشروع الفكري لأنها محايثة لسياقها، ولن تكون متعالية.

ويضيف بشة "إن الحديث عن الموسيقى بمجرد ذكر عناصرها ومفرداتها وتقنياتها، هو حديث غير مكتمل خاصة إذا جاء على لسان الممتهنين لصناعة الموسيقى أو الموغلين في المعرفة الأكاديمية الصرفة. من ناحية أخرى، كان لالتقاء الموسيقى بمجالات العلوم الإنسانية والدراسات التطبيقية، الدور الكبير في خلق أرضية معرفية جديدة مهدت لاكتشاف الموسيقولوجيا".

◙ تعدد المدارس والتنظيرات والمقاربات والمفاهيم أدى إلى تنامي الإشكاليات المعرفية التي حالت دون القدرة على فهم هذا الاختصاص واستيعاب دقائقه

ويلفت إلى أن تعدد المدارس والتنظيرات والمقاربات والمفاهيم، أدى تدريجيا إلى تنامي الإشكاليات المعرفية والقضايا المنهجية التي حالت دون القدرة على فهم هذا الاختصاص واستيعاب دقائقه، قائلا “في هذا الحقل المعرفي، يتقدم الباحث أحيانا ليمتهن مهنة المؤرخ وعالم الاجتماع واللساني والفيلسوف، وأحيانا أخرى مهنة عالم الصوت وعالم الرياضيات وعالم الإثنولوجيا وعالم البيداغوجيا وعالم البسيكولوجيا وعالم الأنتروبولوجيا.. هي جملة من الانتسابات المعرفية جعلت من الموسيقولوجيا، على مدى عقود، محل انتقادات مثيرة حولها الكثير من التحفظات".

وتفرض الموسيقولوجيا القطيعة مع الخطاب التقني الصرف حول الموسيقى، وتتطلع إلى خطاب جديد له مقاربات ومناهج ومفردات ومطارحات قائمة على السجال الفكري المنتهية نتائجه بالتحليل والبرهنة.

فالموسيقى إذن وفق هذه الموسوعة هي رؤية للعالم تجمع في خطابها بين جل المعاجم العلمية والفلسفية والفنية مزهوة بخطابها الفاتن، ولعل هذا ما اختزله الفيلسوف الألماني هيغل قائلا "الفن لغة تخاطب الروح وإن كانت خرساء". وتتناول الموسوعة مختلف الأنماط الموسيقية في تونس من خلال قراءات متنوعة الاختصاصات، تقدم نظرة حول تاريخ الموسيقى التونسية وتطورها، في علاقتها بالتاريخ الاجتماعي والسياسي.

12