خطاب التطرف يغزو مواقع التواصل في الجزائر

الجزائر - إلى وقت قريب كان مفهوم التطرّف في الجزائر مقتصرا على الدين، حيث تسبب خطاب الغلو في بروز جماعات إرهابية دموية ارتكبت الكثير من المجازر باسم الإسلام والانتصار له وتطبيق الشريعة، وقُتلت الحوامل والأطفال والعجائز، قبل أن يفشل مشروعها.
ويبدو أن الخطر الآن يأتي من أنواع جديدة من التطرف بدأت تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فقبيل عيد الفطر الماضي، وفي خطاب له، حذّر رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أول سعيد شنقريحة من مظاهر التشدّد والتطرّف قائلا إن “الدولة الجزائرية لن تسمح بأيّ حال من الأحوال بعودة المتطرفين الذين كادوا يتسببون في انهيار أركان الدولة الوطنية، والذين جاء خروجهم إلى العلن بإيعاز من دوائر التخريب المعادية”، في إشارة مباشرة إلى الجماعات والحركات المحسوبة على التيار الإسلامي التي تسببت في موجة العنف التي عرفتها البلاد في تسعينات القرن الماضي وخلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، وخسائر مادية لا تعد ولا تحصى.
ولئن اطمأن الكثير من الجزائريين لهذا الخطاب، الذي أكّد حرص الدولة على عدم التسامح مع الإرهاب والتطرّف بأيّ شكل من الأشكال، فإن البعض تفاجأ بتوقيته، لأنه جاء في سياق تراجع فيه الإرهاب الدموي كثيرا ولم يبق منه إلا الفلول المعزولة التي لا تشكّل بأيّ حال من الأحوال أيّ تهديد للدولة والمجتمع في رأي الكثيرين، رغم أن التوجه الرسمي يشدد دائما على “اجتثاث هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمع الجزائري من جذورها”.
الأمور تنذر بالأسوأ، لو لم يتم تداركها، وصور الماضي الأليم لم تمح بعد من الذاكرة الجماعية للجزائريين
والحقيقة أن كلام قائد الجيش فتح نقاشا واسعا بين عموم الجزائريين عن التطرف الذي لم يعد يقتصر على الإرهاب الدموي بشكله التقليدي، بل تعدّاه إلى أشكال أخرى انتشرت بقوة خاصة مع بروز شبكات التواصل الاجتماعي التي يدير صفحاتها في العادة أناس مجهولو الهوية ويعملون بلا ضوابط ما تسبّب في انتشار خطاب التحريض والكراهية وبروز أشكال مختلفة من الترهيب والتفرقة كما لم تظهر من قبل.
ويقول أمين معراف، طالب الماجستير في علم الاجتماع، لوكالة الأنباء الألمانية “نحن في عصر التطرّف بامتياز، والتطرف مرتبط بالجهل وعدم التفكير في عواقب الأمور، وهذا ما يحدث بالضبط خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تراجع صوت العقل والحكمة، وأصبحت الصفحات المؤثرة تحت رحمة أناس من الجاهلين لا يعيرون أيّ اعتبار لعواقب الأمور، ولا يترددون في نشر خطاب الكراهية والتطرف بكل الأشكال، ولا غاية لهم إلا الحصول على أكبر عدد ممكن من الإعجابات والمشاركة على نطاق واسع”.
ويرى معراف أن هذا الأمر يتجاوز الإطار المحلي إلى ظاهرة عالمية، كان قد حذّر منها قبل سنين الروائي والفيلسوف الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو عندما صرّح بالقول إن وسائل التواصل الاجتماعي تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في دوائر مغلقة دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، “أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”.
من جهته يلاحظ الصحافي المختص في الشأن الرياضي عمّار قاسمي أن خطاب التطرف انتشر بشكل غير مسبوق عبر الوسائط الحديثة، مما تسبب في فتن لا أول لها ولا آخر بين الكثير من أنصار النوادي الرياضية، التي أدت إلى اندلاع أعمال عنف في ملاعب ومدن مختلفة.
ويضيف قاسمي أن كثيرا من النوادي الرياضية الكبرى في الجزائر كانت تربطها علاقات تاريخية ممتازة، قبل أن يدخل “المتطرفون” على الخط ويزرعوا خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتتحّول تلك الصداقة إلى عداوة تتأجج نارها يوما بعد آخر.
وتجاوز الأمر التباهي بإنجازات هذا النادي أو ذاك إلى الاستهزاء بالخصم، والأخطر من ذلك التشكيك في مصداقية أو حتى “وطنية” البعض عندما يتم نشر وثائق مزورة يدّعي أصحابها أن بعضا من مسيري هذا النادي أو ذاك كان لهم “تاريخ مشبوه”، وهو الأمر الذي يجعل العداوة بين النوادي تتجذّر ويحتاج الأمر إلى معجزة من أجل أن تعود المياه إلى مجاريها.
ولا يقتصر الخطر على شؤون الرياضة وكرة القدم، بل يتعداه إلى الجهوية والعنصرية في أبشع صورها، حيث يؤجج بعض أصحاب الصفحات الافتراضية نار العصبية بين أبناء الشعب الواحد، فيستهزئ بعضهم بلهجات مناطق معينة ويثير السخرية منها ولا غاية له إلا الشهرة على حساب كل شيء.
كلام قائد الجيش فتح نقاشا واسعا بين عموم الجزائريين عن التطرف الذي لم يعد يقتصر على الإرهاب الدموي بشكله التقليدي
وفي هذا يقول محمد سالمي، طالب دكتوراه في علم الاجتماع، إن الأمر الذي عجز عنه الاستعمار بكل علمائه وترسانته العسكرية والدعائية من أجل إثارة الفتن الطائفية والجهوية والعرقية بين أبناء الشعب الواحد نجح فيه هؤلاء “الحمقى” إذ “يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه” كما يقال.
ويؤكد سالمي أن خطاب التطرف تجاوز كل الحدود، وتجاوز المناطق إلى أبناء المنطقة الواحدة، ولا حل للمشكلة إلا بالعودة إلى صوت العقل وكبح “أصوات الحمقى” بالطرق القانونية.
ويرى سالمي أنه آن الأوان لتفعيل قوانين العقوبات والجرائم الإلكترونية، بل إثراؤها في كل مرة وتكييفها مع المستجدات، لأن التسامح في مثل هذه الأمور يحوّل الخطاب إلى سلوكيات مادية من شأنها أن تفجر أحداث العنف. وهذا ما حدث بالفعل في الكثير من المرات، حيث اندلعت أعمال عنف بسبب إشاعات لا أساس لها من الصحة.
وقبل تفعيل القوانين، لا بد من أن يتدخل العقلاء الذين تركوا الساحة لـ”الأغبياء” من خلال فتح نقاشات موسعة ومحاربة التطرف الجديد بصوت الحكمة وإعادة الأمور إلى نصابها، لأن الأمور تزداد سوءا وتنذر بالأسوأ لو لم يتم تداركها، وصور الماضي الأليم لم تمح بعد من الذاكرة الجماعية للجزائريين الذين لا يريدون ولا يرغبون بالتأكيد في إحيائها من جديد.