الزعيم الوطني محمد فريد يشكّك في وطنية أحمد شوقي

لم تكن أدوار الشعراء والمثقفين المصريين، إضافة إلى بعض الدول العربية سابقا منوطة بعالم الأدب فحسب، بل لهم أيضا أدوار سياسية ريادية، إذ كانوا دعاة تنوير ومنخرطين في الحراك السياسي الوطني، والسياسة لها تقلباتها، وهو ما أثر على ما قدمه هؤلاء المبدعون من أعمال من جهة، وعلى مسار حركات التحرر والتنوير من جهة ثانية.
من ذكريات أمير الشعراء أثناء بعثته في فرنسا (1890-1893) على نفقة الخديو توفيق ليكمل دراسته في الحقوق التي قضى سنواتها بين مونبلييه وباريس، وزار خلالها إنجلترا والجزائر وكثيرا من قرى الجنوب الفرنسي ومدنه، أنه التقى قاسم أمين (1863 – 1908) الذي كان موجودًا هناك قبله بسنوات قليلة، وكان موضع إعجاب أساتذته، وأنه وغيره من المصريين، لم يصرفهم اللهو وبهرجة الحياة عن واجبهم الوطني المقدس، حيث وضع لبنة أخرى في بناء الجسر الذي يصل بين الحضارتين الشرقية والغربية. كما التقى شوقي علي أبوالفتوح (الذي أصبح وكيلا لوزارة المعارف، ومات شابا عام 1914 ورثاه في قصيدة) فكان أخا له تجاورا في المسكن وطابت معه الأيام.
علي أبوالفتوح كان يفكر في إنشاء جمعية تجمع كلمة المصريين، وتعرض وجهة نظرهم أمام المجتمع الفرنسي، ورآها شوقي خطوة مهمة في الطريق الصحيح، فوافقه على تفكيره ورشحه لرئاستها. وهكذا تكونت “جمعية التقدم المصري” بمدينة مونبلييه في شهر مايو سنة 1892 واستمر أعضاؤها يزاولون نشاطهم إلى أن نما عددهم فطلبوا التصريح الرسمي بوجودها، وتم ذلك.
وعندما انتقل شوقي إلى باريس دعاه علي أبوالفتوح إلى مواصلة الكفاح في “جمعية التقدم المصري” والعمل على إنشاء فروع لها في باريس وفِرْساليا وجنيف وغيرها. حتى تضم كافة القوى الوطنية، والتفكير في إصدار صحيفة باسم الجمعية تعبر عن أفكار الأعضاء وتكون لسان حالهم.
علاقات وثيقة
وصدر العدد الأول من مجلة “التقدم المصري” في التاسع عشر من مارس سنة 1893 ورأس فرع باريس، أحمد أفندي شوقي المصري أحد موظفي السكرتارية – إدارة التحريرات الخديوية ونزيل باريس، وكان معه الأديب الشيخ محمود أبوالنصر المصري من متخرجي مدرسة دار العلوم الخديوية، ومدرس العلوم العربية بمدرسة اللغات الشرقية بباريس. وخلال تلك الأيام أقامت الجمعية حفل تعارف بين أعضائها، حضره مصطفى أفندي كامل، محرر جريدة "المدرسة" الغراء.
وتوالت أعداد المجلة، تحكي قصة نجاح الجمعية وأعضائها في المجال الوطني، وفي مجال الدراسة، وتحكي عن اجتماعات الجمعية المركزية، وحضور مصطفى كامل (1874 - 1908)، الذي كان شعلة من الوطنية انطفأت قبل الأوان، بعض هذه الاجتماعات أثناء وجوده بفرنسا، وقد لفت الأنظار إليه وتوطدت الصداقة بين شوقي وبينه، إلى درجة أن كامل كتب ذات مرة لمحمد فريد (1868 - 1919) يقول له “وإذا قابلت شوقي فقبله لي مرتين، وقل له أن يرسل ما طبع من ديوانه مع صورته، وأعطه عنواني".
كان مصطفى كامل يعجب بشعر شوقي ويصفه بأنه “الغدير الصافي في ألفاف الغاب، يسقي الأرض ولا يبصره الناظرون"، وكان يخصص لقصائده أسمَى مكان في جريدة "اللواء" التي كان يرأس تحريرها. وقد بقيت هذه الصلة قوية لم يُضعف من قوتها الجفاء الذي رنق بينه وبين الخديو عباس، إذ جنح الخديو إلى سياسة الموادعة والوفاق مع السير إلدون غورست الذي خلف لورد كرومر، ولم يرتض مصطفى هذه الموادعة، وأعلن سخطه في كتاب شديد اللهجة وجهه إلى الخديو، ونشره في الصحف، وقطع علاقته بعباس.
وعندما مات مصطفى كامل رثاه شوقي بقصيدة مطلعها:
المَشرِقانِ عَلَيكَ يَنتَحِبانِ/ قاصيهُما في مَأتَمٍ وَالداني
يا خادِمَ الإِسلامِ أَجرُ مُجاهِدٍ/ في اللَهِ مِن خُلدٍ وَمِن رِضوانِ
لَمّا نُعيتَ إِلى الحِجازِ مَشى الأَسى/ في الزائِرينَ وَرُوِّعَ الحَرَمانِ
رسالة شوقي
يبدو أن علاقة الخديوي بالحزب الوطني قد تغيرت بعد تولي محمد فريد لرئاسته، لتشدد فريد في الثورية عن سلفه مصطفى كامل، وعليه فترت العلاقة بين شوقي وبين الحزب بعامة، مما جعل محمد فريد يطعن في وطنية شوقي، فردَّ عليه شوقي بالرسالة التالية (نشرت في جريدة في مجلة "المنبر" في 12 أكتوبر 1908، ومجلة "سركيس" في 15 أكتوبر 1908) وقال:
"أيها الرئيس، وإن أذنتَ قلتُ أيها الصديق الحميم: أتقدم إلى معاليك مبالغًا في الخطاب، متلطفًا في العتاب، نافيًا عن شرفي بعض ما أحللت به من التهم على صفحات "اللواء"، الذي طالما كنتَ في السلم همزته، في الحرب جمرته، حتى انتقل من يد إلى يد، وهكذا الدنيا دول ونقل، قضى الله أيها الرئيس الكريم أن تتصرف باللواء، فقل فيه عني ما شئت، فإن لك من طوله وعرضه مجالا ومتسعًا. وأنا المغضيُّ المتسامح كرامة لعهد مؤسسه المبكي (يقصد مصطفى كامل) والعهد يحفظه الأكرمون. أبحتك عرضي أيها الرئيس الكريم، تلم به ما شئت وتنال منه ما أردت، إلا وطنيتي التي لن تحل بها التهم ولن ترقى إليها الشكوك والريب، والتي أرجو أن أموت عليها وعلى الشهادة معًا يوم كلتاهما حق، ويوم لا يستوي الذين يحسنون والذين لا يحسنون.
أراك أيها الرئيس الكريم قد خفى عليك مكان وطنيتي، فهل تأذن أن أدلك عليه ولا فخر، فقد أحرجتني إحراجًا، وأخرجتني من خلقي المتواضع إخراجًا، فإن زهيت واستكبرت مرة في العمر واحدة، فإن القراء كرام، والكرام يغفرون. وطنيتي أيها الرئيس هي في فؤاد ولدك الصغير المحروس، فادعه يتلو عليك من آياتها ما يخفق له فؤادك وتهتز له جوانحك اهتزازًا، لأن فريقًا يهزون الرضيع في مهده، ويوحون الوطنية إلى الصغير في درسه، أولئك هم المفلحون.
وطنيتي أيها الرئيس الكريم تطوف بكل حجر ألقى أساسًا للعلم في هذا القطر، من الجامعة إلى النادي إلى أمثالها من مصادر الحياة الحقيقية للأمم والشعوب، يعرف ذلك ويذكره المؤسسون. وطنيتي أيها الرئيس الكريم هتف بها البدو وتغنى بها الحضر، وجاوزت ذلك إلى الأعاجم من ترك وفرس، فهي معلقة على جدران قصورهم ودورهم، يقرؤها هنالك القارئون.
وطنيتي أيها الرئيس الكريم مخبأة ناحية في مقبرة سلفك العظيم، فطف بها وناجه يخرج إليك من جانب القبر صدى الصدق، صدق الحق، صدى الحياة التي لم يتغلب عليها الموت ولا تمكن فيها البلى، صدى الشباب الذي نصفه في الجنة، ونصفه لا يزال في هذه الدنيا يملؤها ويسري فيها، وهذا الصدى يقول: شوقي همزة اللواء طالما تباهى وافتخر، واعتز به وانتصر، وصال بوطنيته ما ظهر فيها وما استتر، وهو أصدق من نظم فيه ونثر، في وقت عز فيه الصادقون.
وطنيتي أيها الرئيس الكريم في “الأهرام” (يقصد جريدة الأهرام) كان قلمي في قمتها، وكانت هممي في خدمتها، وكان صاحبها يحبني كما يحب واحده جبرائيل، وليس وراء الحب غاية في الاحترام. ثم في “المؤيد” مدرسة الوطنيين الأولى، ثم في "اللواء" الذي كان صاحبه الوفي الكريم (يقصد مصطفى كامل) يتلقى مني الكلمة، كأنما يتلقى سنة تقوم لجريدته عرفانا للفضل، والفضل يذكره الخيرون.
وطنيتي أيها الرئيس الكريم في “الشوقيات” قليلها الذي ظهر، وكثيرها المنتظر، وفي “عذراء الهند”، و”دل وتيمان”، و”لادياس”، و”بنتاءور”، ولو اطلعت على واحد من هذه الآثار، تقتنيها ربات الحجال، وفهمها الرجال والأطفال، لعلمت كما علم كثير من العقلاء قبلك، أنني كما وصفني المرحوم مصطفى: "ذلك الغدير الصافي في ألفاف الغاب، يسقي الأرض ولا يبصره الناظرون".
وطنيتي، كل وطنيتي أيها الرئيس الكريم في هذه الشهادة من سلفك العظيم، وإليك الحديث: عدتُ فقيد الوطن المرحوم مصطفى ذات ليلة وهو محتضر، لا يأتي ولا يذر، وكان بحجرة نومه شقيقه ووارث عواطفه ومبادئه الأخ علي بك وثلاثة من كرام الأصدقاء، وكنت قد قمت للفقيد بخدمة أراها أنا لا تذكر، واعتبرها هو أنها لا تصدر إلا عن أوفياء الرجال وشجعانهم، فسر خاطره، وانشرح صدره، وامتد بنا السهر إلى ما بعد منتصف الليل، حتى إذا استأذنا من المريض الكريم، قال لي بمسمع من الإخوان الأربعة “هكذا فليكن الرجال، وهكذا فلتكن الوطنية، والموت حق، والحق ما يقوله المحتضرون".
هذا أيها الرئيس دفاعي عن وطنيتي التي توهم البعض أنك اتهمتني فيها، وما قدمته مداراة للسفهاء ولا مسايرة للغوغاء، ولكن لأنفي الظن عن أدبي في أعين الشبيبة المصرية، خصوصًا الطلبة الكرام الذين لا يهمني فوق شأنهم شأن، والذين هم مستقبل هذه الأوطان.
وما سوى ذلك أيها الرئيس الكريم مما ورد في الرسالة المشرفة باسمك، فلا رد عندي عليه، اللهم إلا أن يحرجني أمر فأخرج من انكماشي زائدًا عن كرامتي، مدافعًا عن شرفي، هذا مع اعتقادي أنك في مقدمة المخلصين للجناب العالي، الصادقين لحاشيته الكريمة وأنا في أولهم. ولقد ذكرت من أعظم ذنوبي لديك أنني ألوذ بأفاضل رجال الصحافة من وطنيين وأوروبيين ويلوذون بي، ولو سألتني عن السبب لأجبتك بالصدق والصراحة اللذين هما في طباعي: أن لي من المركز الأدبي والمادي بحمد الله ما يجعل الوزراء والكبراء يقبلون علي، إن لم يكن يحبون لقائي، ولكني أميل بجملة عواطفي إلى تلك الفئة القليلة من أهل الآداب والرأي في الأمة. ولربما دعيتُ إلى مائدة أعظم عظيم في القطر فاعتذرتُ من أجل دعوة تكون قد سبقت من أحد أولئك الأفاضل، وهذا ما لا يفعله الأكثرون".
محمد فريد
مما يذكر أن محمد فريد تعرض للمحاكمة بسبب مقدمة كتبها لديوان شعري بعنوان “وطنيتي” للشاعر علي الغاياتي، حيث جاءت مقدمته للديوان تحت عنوان “أثر الشعر في تربية الأمم"، ومما جاء فيها: "كان من نتيجة استبداد حكومة الفرد إماتة الشعر الحماسي، وحمل الشعراء بالعطايا والمنح على وضع قصائد المدح البارد والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء وابتعادهم عن كل ما يربي النفوس ويغرس فيها حب الحرية والاستقلال.. كما كان من نتائج هذا الاستبداد خلو خطب المساجد من كل فائدة تعود على المستمع، حتى أصبحت كلها تدور حول موضوع التزهيد في الدنيا، والحض على الكسل وانتظار الرزق بلا سعي ولا عمل".
ومما يذكر أيضا لمحمد فريد أنه أنشأ أول نقابة للعمال عام 1909 وأنشأ معها أول اتحاد تجاري. أما وفاته فقد كانت في ألمانيا، حيث استمر رئيس الحزب الوطني في الدعوة إلى جلاء الإنجليز والمطالبة بالدستور، حتى ضاقت الحكومة المصرية الموالية للاحتلال به وبيتت النية بسجنه مجددا، فغادر محمد فريد البلاد إلى أوروبا سرا، وفي يوم الخامس عشر من نوفمبر 1919 وافته المنية في برلين بألمانيا، وحيدا فقيرا، حتى إن أهله بمصر لم يجدوا مالا كافيا لنقل جثمانه إلى أرض الوطن، إلى أن تولّى أحد التجار المصريين نقله بنفسه على نفقته الخاصة وهو الحاج خليل عفيفي، تاجر قماش من الزقازيق باع كل ما يملك وسافر لإحضار جثمانه من الخارج وقد مُنح، بعد ذلك، نيشان الوطنية من الحكومة المصرية تقديرا لجهوده الوطنية.
وعلى الرغم من الخلاف الذي نشأ بين أمير الشعراء والزعيم الوطني محمد فريد، فإن شوقي رثاه في قصيدة جاء فيها:
كُلُّ حَيٍّ عَلى المَنِيَّةِ غادي/ تَتَوالى الرِكابُ وَالمَوتُ حادي
ذَهَب الأَوَّلونَ قَرناً فَقَرنا/ لَم يَدُم حاضِرٌ وَلَم يَبقَ بادي
هَل تَرى مِنهُمُ وَتَسمَعُ عَنهُمُ/ غَيرَ باقي مَآثِرٍ وَأَيادي
قُم إِنِ اِسطَعتَ مِن سَريرِكَ وَاِنظُر/ سِرَّ ذاكَ اللِواءِ وَالأَجنادِ
هَل تَراهُم وَأَنتَ موفٍ عَلَيهِم/ غَيرَ بُنيانِ أُلفَةٍ وَاِتِّحادِ
أُمَّةٌ هُيِّأَت وَقَومٌ لِخَيرِ ال/ دَهرِ أَو شَرِّهِ عَلى اِستِعدادِ
مِصرُ تَبكي عَلَيكَ في كُلِّ خِدرٍ/ وَتَصوغُ الرِثاءَ في كُلِّ نادي
لَو تَأَمَّلتَها لَراعَكَ مِنها/ غُرَّةُ البِرِّ في سَوادِ الحِدادِ
مُنتَهى ما بِهِ البِلادُ تُعَزّى/ رَجُلٌ ماتَ في سَبيلِ البِلادِ
أُمَّهاتٌ لا تَحمِلُ الثُكلَ إِلّا/ لِلنَجيبِ الجَريءِ في الأَولادِ
كَفَريدٍ وَأَينَ ثاني فَريدٍ/ أَيُّ ثانٍ لِواحِدِ الآحادِ
الرَئيسِ الجَوادِ فيما عَلِمنا/ وَبَلَونا وَاِبنِ الرَئيسِ الجَوادِ
أَكَلَت مالَهُ الحُقوقُ وَأَبلى/ جِسمَهُ عائِدٌ مِنَ الهَمِّ عادي
لَكَ في ذَلِكَ الضَنى رِقَّةُ الرو/ حِ وَخَفقُ الفُؤادِ في العُوّادِ
عِلَّةٌ لَم تَصِل فِراشَكَ حَتّى/ وَطِئَت في القُلوبِ وَالأَكبادِ
صادَفَت قُرحَةً يُلائِمُها الصَب/ رُ وَتَأبى عَلَيهِ غَيرَ الفَسادِ
وَعَدَ الدَهرُ أَن يَكونَ ضِماداً/ لَكَ فيها فَكانَ شَرَّ ضِمادِ
وَإِذا الروحُ لَم تُنَفِّس عَنِ الجِس/ مِ فَبُقراطُ نافِخٌ في رَمادِ