مفاجآت سياسي مصري

الرجوع إلى ما تردد منذ شهرين بشأن اختيار بدراوي ليكون "محللا" أو منافسا جادا في انتخابات الرئاسة يصبح منطقيا في خضم تصريحاته ومفاجآته، فمن مصلحة الرئيس السيسي ألا يكون نجاحه كاسحا.
الاثنين 2023/08/14
انتخابات رئاسية لن تكون مثل سابقتها

لم يعتد المصريون منذ فترة أن تخاطبهم شخصية سياسية بقدر عال من الوضوح حول نظام الحكم مثلما حدث أخيرا من قبل المستشار السياسي للحوار الوطني والقيادي السابق في الحزب الوطني (المنحل) حسام بدراوي، فقد تطرق الرجل في حوار صحفي إلى عدد من القضايا المهمة والمسكوت عنها، مثل أن يكتفي الرئيس عبدالفتاح السيسي بفترتين رئاسيتين ولا يترشح لفترة ثالثة في الانتخابات المقبلة.

تعددت الاستنتاجات التي حواها الحديث وتطرقه إلى قضايا شائكة في المشهد السياسي، بين رغبة شخصية لتحريك المياه الراكدة في البلاد انطلاقا من خبراته الطويلة، وبين جس نبض لتفكيره في خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبينهما رسالة ثالثة تقول إنه يعبر عن تيار صاعد في مصر يرى أن حل الأزمات الاقتصادية يحتاج إلى ضخ دماء جديدة في الإدارة السياسية للدولة، وفي تفسير رابع يعبر عن مصالح قوى خارجية تتحفظ على استمرار الرئيس السيسي في السلطة.

◙ وضع الانتخابات تحت المجهر من قبل منظمات حقوقية ومجتمع مدني يمنح قوى معارضة جرأة في التخلي عن حذرها والنزول إلى الشارع بكل ما يحمله ذلك من تحديات أمنية وسياسية

بعيدا عن الاستنتاج الصحيح في نظرية الاحتمالات، فقد يكون أحدها أو جميعها، فإن التعامل الهادئ من قبل وسائل الإعلام القريبة من الحكومة أثار علامات استفهام كبيرة، فعندما تطرق السياسي والطبيب الكبير محمد أبوالغار إلى ملفات قريبة من تلك التي تطرق إليها بدراوي تعرض الرجل لانتقادات عديدة، وجرى التقليل من خطابه وتوجيه اتهامات غير لائقة بتاريخه ومكانته العلمية.

مرور تصريحات بدراوي التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بلا تعقيب يتناسب مع أهميتها من أنصار الرئيس السيسي أظهر الأمر كأن هناك اتفاقا ضمنيا معه من جانب مسؤولين على فتح المجال لنقاش حول قضايا مختلفة بلا خطوط حمر، أو أن ثمة تغييرات حقيقية في مصر يمكنها أن تستوعب خطابا نقديا ساخنا.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يبدي فيها بدراوي رأيا مختلفا عن المزاج السائد في مصر منذ سنوات، حيث كتب مقالا بجريدة “الأهرام” منذ نحو أسبوعين حول الدولة المستبدة والحاكم المستبد ومخاطرهما، ملأه بإشارات وإيحاءات ولم يذكر مصر تحديدا، لكن نشره في أكبر وأعرق صحيفة في البلاد أكد أن المسرح السياسي يتهيأ لمفاجآت عديدة، وربما يكون ما قاله بدراوي يندرج تحتها أو جزءا منها.

يفسر المراقبون التصريحات والمقالات الصادمة تفسيرات سياسية مقصودة، لأنها تتناول ملفات غير معتادة وتظهر فجأة بلا مقدمات وتحمل تأويلات متعددة، بمعنى أن خطاب بدراوي لا ينبع من تفكيره الشخصي فقط، فالرجل يظهر ويختفي ولم يعرف عنه الاشتباك مباشرة مع القضايا العامة وبهذه الدرجة من الصراحة.

مع أن بدراوي كان آخر أمين عام للحزب الوطني قبيل سقوط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكنه عرف بأنه يمثل التيار الإصلاحي في الحزب آنذاك، ونادى بإدخال تعديلات على توجهات الحزب تسمح بتعددية ليبرالية حقيقية، ولا زال يحتفظ في أوساط النخبة والرأي العام بصورة جيدة، غير أنها لا تصل إلى مستوى الحديث عن ابتعاد الجيش المصري عن السياسة والاقتصاد في مصر.

◙ لم تكن هذه المرة الأولى التي يبدي فيها بدراوي رأيا مختلفا عن المزاج السائد في مصر منذ سنوات
لم تكن هذه المرة الأولى التي يبدي فيها بدراوي رأيا مختلفا عن المزاج السائد في مصر منذ سنوات

تأتي أهمية ما قاله بدراوي، بعيدا عما إذا كان مخططا أم ارتجاليا، من نجاحه في منح جرعة شجاعة لقوى سياسية لممارسة النقد البناء، ويحسب لأجهزة الدولة قدرتها على استيعاب خطابه وغيره من الشخصيات التي بدأت ترفع سقف الحوار حول قضايا غابت طويلا عن النقاش في الفضاء العام.

أخفق نفي بدراوي عزمه الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في إقناع من تابعوا خطابا سياسيا بامتياز، رسم شكلا جذابا لرجل هناك من يتحفظون عليه بحكم التصاقه السابق بالحزب الوطني، حتى لو كان ممثلا لتيار إصلاحي فيه.

لعل الرجوع إلى ما تردد منذ حوالي شهرين بشأن اختيار بدراوي ليكون “محللا” أو منافسا جادا للسيسي في انتخابات الرئاسة يصبح منطقيا في خضم تصريحاته ومفاجآته، فثمة جناح في الدولة المصرية يريد أن تكون الانتخابات المقبلة تنافسية وبها قدر من تكافؤ الفرص، فمن مصلحة الرئيس السيسي ألا يكون نجاحه كاسحا، وأن الاستعانة برؤساء أحزاب هامشيين ينزع عنها وعنه الدسم السياسي المطلوب.

يحقق ظهور بدراوي في صورة سياسية جذابة الكثير من الشروط المطلوبة في المرشح المنافس المحتمل، ويمنح الانتخابات زخما داخليا وخارجيا مهما، ويبعدها عن الدائرة المغلقة التي جرت في ظلها المرة السابقة عام 2018 عندما كان رئيس حزب الغد موسى مصطفى موسى مرشحا ضد السيسي بعد إعلانه أنه من أشد مؤيديه.

يبدو سيناريو مشاركة القيادي السابق في الحزب الوطني في الانتخابات المقبلة شيقا، فبدراوي قد يخوضها بجدية شريطة توافر أجواء مواتية من النزاهة والشفافية والمصداقية والرقابة، ودرجة عالية من الحريات في الحركة ومخاطبة الناس في الشارع ومن خلال وسائل الإعلام.

يؤدي الوصول إلى صفقة سياسية بهذا المعنى إلى حراك سياسي مزدوج، يستفيد منه بدراوي في دخول منافسة تتوافر لها عوامل حياد، ويستفيد منه الرئيس السيسي في أنه يخوض معركة انتخابية شفافة، ويؤكد أن ما تردد حول انخفاض شعبيته مشكوك فيه، وأن نزاهة الانتخابات وفوزه على منافس قوي دليلان على تأييد الناس له.

◙ مرور تصريحات بدراوي التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بلا تعقيب يتناسب مع أهميتها من أنصار الرئيس السيسي أظهر الأمر كأن هناك اتفاقا ضمنيا معه

هذا سيناريو تخيّلي مبني على معطيات سياسية ومعرفة بطريقة التفكير التي يتم التعامل بها مع الاستحقاق الرئاسي المقبل، إذ توجد مؤشرات تؤكد الرغبة في أن تكون هذه الانتخابات مغايرة لسابقتها التي تسببت في إحراج مسؤولين عجزوا عن الحصول على موافقة مرشح يليق بمقام الرئيس ومكانة السيسي في الوجدان العام.

والسؤال، أو الهاجس، الذي يساور البعض ممن يرون أن الحركة تسير في اتجاه إجراء انتخابات تتوافر لها ضمانات كبيرة للنزاهة هو: ما مدى قدرة الدولة على قبول عملية يمكن أن تفتح الطريق أمام مسارين غير متوقعين؟

الأول: خوض بدراوي، أو غيره، المنافسة بجدية واستثمار تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الشارع بما يمكنه من الحصول على نسبة من الأصوات المحتجة في بلد اعتاد رئيسه الفوز بنسبة عالية كدليل على شعبيته الجارفة.

والثاني: وضع الانتخابات تحت المجهر من قبل منظمات حقوقية ومجتمع مدني يمنح قوى معارضة جرأة في التخلي عن حذرها والنزول إلى الشارع بكل ما يحمله ذلك من تحديات أمنية وسياسية وكسر حلقات تضييق تم التأسيس لها السنوات الماضية.

مهما كانت نتيجة المسار الذي يمكن أن تسلكه الانتخابات الرئاسية في مصر لن تكون مثل سابقتها، والمفاجآت التي حملها خطاب بدراوي ربما تكون قمة جبل الثلج الذي يمهد الطريق لتحولات سياسية فارقة لم يتوقعها كثيرون في مصر ممن تعاملوا مع الهدوء المتواصل على أنه حالة شبه دائمة.

8