لوحات معن علي سعيد تكشف دلالات الجسد على السطح التصويري

مقاربة جمالية للأثر الحضاري لاحتجاج الإنسان بجسده.
الخميس 2023/08/03
معان ودلالات متنوعة للكشف عن تفاصيل الجسد

يكشف الفنان السوري معن علي سعيد أجساد شخوصه ليعيد تشكيلها وتطهيرها وترميمها وكأنه يقدم وصفة لتصالح الذات الإنسانية مع الجسد، أو تحاورا بين المقدس والمدنس محررا العواطف والأفكار الذاتية والمشتركة على سطح اللوحة.

إن تعرية الجسد تأخذ فهما آخر ليس اصطلاحيا أو أخلاقيا وفق الشائع من المفاهيم الثقافية والاجتماعية حسب دلالاتها الظاهرية السطحية، لكنها تغدو فلسفة لتطهير وترميم الذات الإنسانية عندما يكون هناك تصالح نفسي وفكري بين الجسد والروح والعقل.

بيّن مارسيل موس في دراسته المعنونة “التعبير القسري عن المشاعر”، أن العواطف لا تنتمي إلى سيكولوجيا فردية ولا إلى فيزيولوجيا غير مبالية، وحالما تظهر المشاعر من خلال الجسد، وتبرز من خلال السلوكيات تصبح انبثاقات اجتماعية تفرض نفسها بمحتواها وبشكلها على أعضاء مجموعة تنتمي إلى وضعية معنوية. ومثال ذلك فذرف الدموع مرتبط بالألم، الفرح، التحية… إلخ.

النص البصري التعبيري للجسد في لوحات الفنان السوري معن علي سعيد يأخذ منحنى مغايرا له رؤيته ومفاهيمه
النص البصري التعبيري للجسد في لوحات الفنان السوري معن علي سعيد يأخذ منحنى مغايرا له رؤيته ومفاهيمه

إن النص البصري التعبيري للجسد في لوحات الفنان السوري معن علي سعيد يأخذ منحنى مغايرا له رؤيته ومفاهيمه وهذا ما نلمسه في لوحاته الأخيرة التي اتسق فيها تعبير الجسد بالمحنة الدالة على شخصيات الفنان وثيمه، وأذكر هنا كمثال ليس للحصر (لوحة لحن الصمت ولحن الانتظار ولحن الموت ووجوه ونساء والظل وآدم وحواء).

حاول الفنان أن يعطي معاني ودلالات للتعري وفق السياق التاريخي واللحظة الزمنية المعيشة للظروف المحيطة التي يعيشها الإنسان السوري بشكل خاص والإنسان العربي عامة والإنسان بشكل مطلق الذي وقع تحت الضغوط الهائلة من التحديات والمحن المعيشية والتهديدات التي تحاول كبح وجوده ونفيه من خلال الصراعات والحروب والتغريب، ويصبح الإنسان في هذا الكوكب مجرد أداة للتهكم والاستغلال والظلم، وأداة لتحقيق غايات الآخر، فجردت آدميته وكرامته ووجوده لصالح العولمة كعنصر وآلة من آلات الإنتاج والتكسب، وخاضعا للتجارة والبيع، وهنا يعود بنا التاريخ إلى زمن الرق والعبودية.

هناك متخيل آخر للجسد أكثر انتشارا، يرى هشاشة البدن: وعدم قدرته على التحمل والنقص الذي يعتريه في الاستيعاب الحواسي للعالم والشيخوخة التدريجية لوظائف أعضائه، وعدم إمكان اشتغال مهاراته والموت دائم التهديد. هذا المتخيل التحقيري كله للجسد المتهم بالخطيئة الأصلية يدل على عدم التحكم في العالم ويدفع الفاعل إلى الإحساس بالحقد عليه لعدم قدرته على أن يصبح موضوعا، أو شيئا خالصا للإبداع.

إن رسومات الفنان السوري معن علي التي تظهر الجسد الذكوري والأنثوي بشكل جلي وواضح بهزالته وضعفه شكل تعبيري وشاخص على فضاء لوحاته بألوانها البنية التي تميل بين الألوان الداكنة والواضحة دون الخوض بتفاصيل الجسد كحالة مثالية كما يريدها أرسطو، ولكنها ذات دلالات وسمات علاماتية توحي بهزالة الجسد وضعفه شكلا لا جوهرا، رغم الأنين الذي يضج في داخله بعد أن سلطت عليه قوى قاهرة أجبلته أن يكون في غربة قاسية وتغريب عن الفعل الزمني والمكاني والفعل الحضاري والوجودي.

إن آلية اشتغال الفنان هنا يمكن أن نصفها بأنها جامعة بين فن البورتريه والفن التعبيري وهي محاولة مزج نصية دلالية سيمائية لتعطي خطابها البعد الفلسفي والجمالي والتجريدي.

المرأة محور دلالات الجسد
المرأة محور دلالات الجسد

لقد استحضر سعيد المأساة بكل أشكالها كمواطن قبل أن يكون فنانا ليصف ويحتج بكل تمرد وعري وتظاهر لما آل إليه الواقع من تدميرية مقصودة للإنسان المعاصر ومحاولة تجريده من فعله الوجودي أولا ومن ثم فعله الثقافي الإنساني، يشي الفنان هنا رغم تصوير ثيم شخوصه بأنها خضعت إلى فعل التدمير وهانت وخارت لديه قوى المقاومة ووهن جسده لكن مازال رغم انتظاره للموت وحالة الصمت التي ألمت به لم يتخل عن آلاته الموسيقية رغم ما تصدح به من نغمات وألحان معطوبة تبث الحزن والبكاء، والتي تبدو هي الأخرى قد أصابها الضعف والوهن والانكسار والغربة.

وهنا يمكن القول إن حالات التعري على السطح التصويري هي ليست بمعناها الفلسفي الطبيعي وإنما لها دلالات أخرى قد تلامس الزهد والتجلي الروحي وحالة الاندماج بين الظاهر والباطن للخلجات الوجدانية والفكرية في لحظة تاريخية لها مبرراتها وأسبابها وفلسفتها. إنها لحظة كونية وسمو مخيالي يتعدى الواقع ليرسم إشراقة وبعدا وتصورا نورانيا إلى حقيقة الوجود الإنساني بفيضه وعنفوانه وفق النسق المعرفي والحياتي له ولطبيعة وجوده في هذا الكون وتشكله في عالم أو يسعى لتشكيل حاضره ومستقبله وفق فهمه وتصوره وغاياته في هذا الوجود الكوكبي.

إن حالة التعري هنا للأشخاص بصفتهم كائنات بصرية وآلاتهم الموسيقية هي ليست الدعوة إلى الانكفاء والعودة إلى الطبيعية والإذعان بل هي مقاربة معنوية وقاهرة لقوى التدمير وهي لحظة استذكار وتذكير للأثر الحضاري والجمالي والمنجز الثقافي والإنساني للشعب السوري على مختلف العصور التي أعطت للإنسانية جمعاء رسالتها الإنسانية والإبداعية والجمالية، وهي ليست دعوة من لدن الفنان إلى ثقافة الجسد الحر كما تدعو لها الفلسفة الألمانية في وقت ما بقدر ماهي لحظة احتجاج وتسليط الضوء على معاناة الإنسان الذي بات مهمشا ومسلوب الإرادة ومسلوبا من الفعل بوصفه أحد صناع هذا الخلق.

14