خير ما يفعله الرئيس عباس

انعقد لقاء القاهرة للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، أم لم ينعقد، نجح أم لم ينجح، فإن خير ما يمكن للرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يفعله هو أن يستقيل. هو وكل المحيطين به دفعة واحدة، وأن يتركوا أمر الشعب الفلسطيني للشعب الفلسطيني ليقرر لنفسه ما يشاء.
فهذا أول الحق بتقرير المصير. وأول الجدارة به.
ويمكن أن أعد مئة سبب لذلك، لو أن المكان يتسع. ولكن يكفي منها أن خياراته السياسية كلها فشلت، بالجملة والمفرق. وأن شعبه لم يعد يقبله، وهو يعرف ذلك. وإنه عندما زار مخيم جنين، فعل ذلك كما يفعل الغزاة، ولم يقابله أحد من أهل المدينة أو المخيم. ولأنه طاغية يتصرف بسلطته على هواه. ولأنه أقام حكومة ينخرها الفساد ويرتع منها المنتفعون، وهو واحد منهم، ولا تعرف كم سيأخذ منها معه. ولأنه قدم دليلا، من نفسه فقط، على أن الشعب الفلسطيني لا يستحق أن تكون له دولة، ذلك لأنه عندما أتيحت الفرصة لتقديم دليل على الجدارة والأهلية لبناء دولة، بنى زريبة لا تحترم القانون ولا المؤسسات. وظل يهرب من استحقاق إجراء انتخابات لأنه يعرف نتائجها ما يجعل سلطته منزوعة الشرعية.
لو كان لدى الشعب الفلسطيني رئيس جدير بأن يقدم المثال والنموذج، في الإدارة والتنظيم وتوظيف الفاعلية الاجتماعية، لكان من المعقول والممكن أن يتبعه "قادة الفصائل"
ولأن سلطته تعتقل المناضلين الفلسطينيين كما يفعل الاحتلال. وهي تورطت بأعمال قتل إجرامية لبعضهم، تكفي لإحالتها إلى المحاكمة. ولأن لغته صارت بذيئة، في دلالة على انحدار قدرته على التعاطي مع القضايا المطروحة أمامه بمنطق العقل. ولأن سلطته ظلت تردد شعارات ليس هناك ما يسندها على أرض الواقع، ظنا منه ومنها، أن الشعارات الفارغة تكفي للحفاظ على الحقوق الوطنية. ولأنه موهوم بقناعات عن بعض علاقاته مع المسؤولين الإسرائيليين، بينما هم يسحبون البساط من تحت أقدامه، ويجبرونه على التراخي مع التوسع الاستيطاني ونهب المزيد من الأرض وهدم المزيد من المنازل، وطرد المزيد من العائلات في القدس وجوارها من أرضها ومساكنها.
ولأنه يتاجر بالقضية الفلسطينية للحصول على أموال لا تعرف أين ينفقها. ولأنه حائر، لا يعرف ماذا يفعل، ولم يبحث عمن يعينه في اشتقاق سياسات جديدة، ولم يطلب من أحد أن يدله على طريق، ولم يدع خبراء ومثقفي الشعب الفلسطيني لدراسة حال شعبهم وقضيتهم لأجل الخروج بخطة عمل وطنية قابلة للتنفيذ. ولأنه من بعد ذلك كله مريض وشبه عاجز، حتى صار ينام على نفسه. والمرض ليس عيبا بحد ذاته. ولا الشيخوخة ولا العجز. كل البشر مُقدّر لهم أن يبلغوا هذا الحال إذا عمّروا أزيد من اللازم.
قضية بصعوبة وتعقيد وتشابك القضية الفلسطينية، لا بد وأن تحتاج رئيسا نشطا على الأقل، ناضج القدرة على التفكير والتشاور. سليم العقل إلى درجة أنه لا يكتفي بما يدور في عقله هو وحده. كما تحتاج إلى رئيس مخلص لشعبه، بمعنى أن يلجأ إليه، ويستفتيه، ويأخذ نخبته الوطنية بالاعتبار، ويصغي إلى النقد، ولا يعتقل أحدا ممن يخالفونه في الرأي، بل يستنجد بهم، ويسألهم، ويحاول أن يكسب منهم معرفة بخيارات وبدائل. أو يناقشهم على الأقل، لا لأجل أن يرضيهم برأيه، ولكن لأجل أن يفترش أمامهم الصورة، وأن يدقق فيها ما زاد أو نقص.
ولقد كان من الجدير بالرئيس عباس أن يكون نموذجا لغيره في التشاور والنزاهة والإخلاص والتواضع لشعبه، حتى يقلده الآخرون. إلا أنه لم يفعل. صار صنما أصم، لا يرى إلا ما يريد أن يراه، ولا يسمع إلا ما يريد أن يسمعه، ومثلما يحتقر شعبه، فلا يسأله انتخابا أو تجديدا لشرعية وجوده على رأس السلطة، فإن شعبه يحتقره، حتى لم يعد يريد أن يراه أو أن يتحدث معه أو أن يتعاطى مع جلاوزته وجلاديه. ومثله صار تسعة أعشار الأمناء العامين. ذلك أنهم يغزلون على منواله، فلم يترجلوا عن بغلة الصمود في مناصبهم، ليعرضوا على أعضاء فصائلهم انتخابات حرة ونزيهة. وهم لا تعرف ماذا يفعلون غير إصدار البيانات المكررة. كما لا تعرف ما أهمية بقائهم كفصائل جرجرت نفسها منذ أن كانت فصائل إلى أن أصبحت شيئا غامضا، لا هي أحزاب سياسية، ولا هي قوى مسلحة، ولا هي تنظيمات مدنية تؤدي خدمة بعينها، أو تحقق غرضا بعينه. كما لا تعرف لماذا لا تتحد، بينما هي أمام قضية “مصيرية” تهون من حولها التفاصيل والصغائر.
الفشل ليس داخليا فحسب. إنه فشل في الخارج أيضا. ذلك أنه يفتقر إلى النضج في التعامل مع دول المنطقة والعالم
فلو كان لدى الشعب الفلسطيني رئيس جدير بأن يقدم المثال والنموذج، في الإدارة والتنظيم وتوظيف الفاعلية الاجتماعية، لكان من المعقول والممكن أن يتبعه “قادة الفصائل”.
وكلما بقي الرئيس عباس في منصبه، كلما زاد التردي في أوضاع الفلسطينيين، وتراجعت قضيتهم. ذلك أن فشل خياراته وفشل إدارته يجعله هو السبب الأول الذي، بدلا من أن يرفع شأن القضية الفلسطينية، فإنه يطيح بها من عل، دونما وجه حق أو مبرر. فالفلسطينيون ليسوا ضعافا إلى مستوى الصورة التي يقدمها الرئيس عباس عنهم وعن قضيتهم. ولقد كان من الحري به أن يسأل نفسه: لماذا أصبح هناك بين الشبان الفلسطينيين من يمتطي البحر بحثا عن الهجرة. ولقد كان من الحري به أن يفهم أن فشله هو السبب.
والفشل ليس داخليا فحسب. إنه فشل في الخارج أيضا. ذلك أنه يفتقر إلى النضج في التعامل مع دول المنطقة والعالم، ولديه محفوظات يرددها هي نفسها باستمرار، لكي تصيب الناس بالملل. وهو يقصد ذلك، لكي يبرر بالملل مظاهر عجزه الأخرى. كما إنه لا يبدو مؤثرا في أحد، وفشل في أن يجعل قضية شعبه حيوية ونابضة بين القضايا الملتهبة الأخرى، وتعمد ألا يتفهمها لكي لا يتفهموه.
رجل حاله من حال الصنم، ما كان ولن يكون بوسعه أن يحقق شيئا. ولا تعرف لماذا لا يستقيل. حتى ليبدو وكأنه متمسك بمنصبه لمجرد الإزعاج والعرقلة.
وبطبيعة الحال، لأن هناك من حوله مَنْ يزينون له الباطل.