التشققات في جدار الناتو ظاهرة، ولكن ليست كما توقعها بوتين

تبرز اليوم شقوق طال توقعها في جدار الناتو، حيث شهدت قمة حلف شمال الأطلسي في العاصمة الليتوانية، فيلنيوس، خلافات بين الدول الأعضاء وأوكرانيا. وأعرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن غضبه من رفض الناتو تحديد جدول زمني لانضمام بلاده إلى الحلف، ووصف الأمر بـ”السخيف”.
وأثار هذا الانتقاد العلني النادر استجابة فورية من الدولتين اللتين قدمتا أكبر قدر من الدعم. وقال وزير الدفاع البريطاني بن والاس إن “الناس يريدون أن يروا القليل من الامتنان”، مشيرا إلى أن السياسيين الأوكرانيين اعتادوا طلب نوع من الأسلحة، ثم طلب نوع آخر فور تلقي السلاح الأول.
وردد مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان رسالة والاس قائلا إنه يشعر أن “الشعب الأميركي يستحق بالفعل درجة من الامتنان”. وكان من الواضح أن هذه الردود فاجأت زيلينسكي الذي صرح للصحافيين في وقت لاحق من ذلك اليوم بأن أوكرانيا ممتنة.
التحالف أصبح الآن ملتزما بعقيدة عسكرية جديدة تؤكد على التحضير لحرب مطولة وطاحنة برية وجوية على امتداد القارة الأوروبية بأكملها، أي بما يختلف عن الحروب المحدودة في أفغانستان والعراق
بدا هذا خلافا نادرا بعد أكثر من عام من الحرب الدموية. وقد سبب الغزو الروسي خسائر فادحة لأوكرانيا أولا، وأثّر أيضا على مئات الملايين من الأشخاص حول العالم. ودفعت دول الناتو، التي قدمت أكبر قدر من الأموال والأسلحة، تكلفة باهظة حيث أثّرت على نسب التضخم وتكاليف المعيشة اليومية.
وكان هذا الانقسام في الحلف متوقعا منذ فترة طويلة، وهو ما كانت روسيا تعوّل عليه في حربها. لكن هذه الشقوق ليست بالضبط ما تنبأت به موسكو. حيث تشكّلت الشقوق نتيجة لتوسع الحلف واتخاذه نهجا تصادميا وهي ليست علامة على الانقسام بين الدول الأعضاء.
وانتشرت الفكرة التي تقول إن الحرب الطويلة في أوكرانيا تخدم مصالح موسكو منذ بداية الغزو، وربما كانت من دوافعه. وذكرت النظرية أن الدول الغربية ستتعب في النهاية، بغض النظر عن مدى دعمها في البداية، وسترى أن من الصعب تبرير الخسائر التي تلحقها الحرب بشعوبها.
وحدث ذلك على نطاق واسع، حيث فاقمت حرب أوكرانيا التضخم والأزمة الاقتصادية المتزامنة في أجزاء كثيرة من الغرب. وكان التأثير أبرز في الجنوب. وأكّدت استطلاعات الرأي تعب الجماهير الأوروبية من الحرب وتأثيرها على الاقتصاد. ولكن لم يكن كل هذا بالقدر المتوقع.
وكان العامل غير المتوقع هو الاستجابة السياسية والتأثير الموحد للحرب، وخاصة في حلف الناتو الذي كان هائما لسنوات. وجسّدت هذه القمة اللحظة التي أصبح فيها التغيير حقيقيا.
ووافق أعضاء الحلف لأول مرة منذ سنوات على خطة شاملة جديدة لأمنه في المستقبل. وتبقى الخطط المفصّلة في الآلاف من الصفحات سرية بشكل طبيعي، لكن التقارير أشارت إلى أنها تغطي عمليات النشر والمعدات الجديدة والاستثمارات. بعبارة أخرى، يخبر الناتو أعضاءه أخيرا بالمبلغ الذي يجب إنفاقه وما الذي يجب إنفاقه عليه، وهو أمر طالما أثار استياء الدول ذات الجيوش الأكبر، مثل فرنسا وتركيا.
وأصبحت عملية إعادة تنظيم الناتو أمرا حقيقيا لا رجعة فيه على المدى المتوسط. وربما كان قابلا للعكس حتى في أواخر الخريف الماضي. ولو انتهت الحرب في ذلك الحين، حتى في ظل هدنة غير كاملة، لأدى ذلك، ربما، إلى عودة الجمود الذي أصاب أعضاء الناتو على مدى عقدين من الزمن.
لكن التحالف أصبح الآن ملتزما بعقيدة عسكرية جديدة تؤكد على التحضير لحرب مطولة وطاحنة برية وجوية على امتداد القارة الأوروبية بأكملها، أي بما يختلف عن الحروب المحدودة في أفغانستان والعراق.
عملية إعادة تنظيم الناتو أصبحت أمرا حقيقيا لا رجعة فيه على المدى المتوسط. وربما كان قابلا للعكس حتى في أواخر الخريف الماضي
ويعني كل هذا موقفا جديدا في القارة.
ويكمن الجانب الإيجابي لهذا الموقف في كون المهمة واضحة من وجهة نظر أعضاء الناتو الذين سيتعين عليهم تنفيذها. لكن الجانب الآخر هو أن دول الحلف بدأت الآن تفكر بجدية بشأن مستقبلها وما إذا كان بإمكانها الدفاع عن نفسها.
وتستخدم أوكرانيا كميات هائلة من الأسلحة كما أشار وزير الدفاع البريطاني بن والاس، مما يعني أن كييف “تقنع الدول بالتخلي عن مخزونها من الأسلحة”.
ويكمن أبرز مثال على ذلك في قذائف مدفعية هاوتزر من عيار 155 ملم التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا. وتعتمد كييف هذه الأسلحة بمعدل غير مستدام. ولا يمكن تحديد إجمالي الأسلحة المعتمدة لكون ذلك سرا عسكريا، لكن يبدو أن أوكرانيا تستخدم عددا من القذائف في يومين، أو ربما عشرة أيام، بما يتجاوز ما يمكن للولايات المتحدة أن تنتجه في غضون شهر. ويخلق ذلك مشكلة لكل من كييف وواشنطن على المدى الطويل.
وتصل كمية الأسلحة المقدمة إلى نقطة “إما” أن يبقى لدول الناتو ما يكفي للدفاع عن نفسها، أو “إما” أن تمنح أوكرانيا ما تريده. وكان هذا مصدر الاضطراب في القمة.
لا يعتبر أيّ من هذا خبرا سارا بالنسبة إلى روسيا، لكن وسائل التواصل الاجتماعي حاولت إعادة تصوير الخلاف. كان يمكن أن ينجح غزو أوكرانيا إذا كان سريعا أو نُسي سريعا، مثل احتلال شبه جزيرة القرم في 2014. لكن قد تكون هذه بشرى سارة لفلاديمير بوتين، فمن شأن الغزو الذي أدى إلى إعادة ترتيب كاملة في القارة أن يبقي روسيا في دور الغريب الدائم الذي يكون الرئيس مرتاحا فيه ويمكنه تسويقه بسهولة للجمهور الروسي في الانتخابات القادمة.
وشهدت قمة الناتو الأكثر أهمية منذ عقود تولي الحلف لدور جديد مشابه جدا لذلك الذي لعبه قبل سنوات.