سعد الحريري.. عود على بدء

الوقت ربما ما يزال مبكرا لتقييم تجربة السلطة التي خاضها سعد الحريري بين عامي 2009 و2011، ثم بين عامي 2016 و2019، وقاد خلالها تيارا سياسيا كان بمثابة القوة الثالثة في لبنان، بعد الكتلة المسيحية و”الثنائي الشيعي”. إلا أن ما ظل يُحسب عليه، وما ندم عليه هو نفسه، هو أنه تراخى أمام ضغوط الأزمة التي نشأت عن فراغ رئاسي دام نحو عامين ونصف العام، وقرر التنازل أمام “حزب الله” فدعّم ترشيح ميشال عون لمنصب الرئيس في أكتوبر 2016.
الحريري لم يكن الوحيد الذي قدم ذلك التنازل. سمير جعجع فعل الشيء نفسه أيضا. ولكن الحريري هو الذي دفع الثمن.
لا أحد يعرف من هو “حزب الله” أكثر من سعد الحريري. قد يمكن أن نتشاطر حول الكثير، إلا أنك لا تستطيع أن تتشاطر في تلك المعرفة مع الحريري. قتلوا أباه. مزقوا، بهذا المعنى، كبده، وشربوا من دمه.
◙ لا شيء يدعو الحريري إلى الندم على أنه رضخ أمام الفكرة التي يرضخ لها الجميع الآن ولكنه يجب أن يندم على أنه لم يكن صارما في أخذ التعهدات والالتزامات المسبقة
والمعنى من ذلك، هو أنك لا تخبره بشيء لا يعرفه عن “حزب الله”، ولا تتفوق بأوجاعك منه على أوجاعه.
ولكنه رضخ أمام الفكرة القائلة إنه “لا يمكن تجاوز القوة التي يمثلها هذا الحزب”. وبطبيعة الحال لا يمكن تجاوز القوة الاجتماعية لحزب الله أيضا في الوسط الشيعي اللبناني. وهو، في قسط كبير منه، وسط مأجور، تدفع له إيران رواتبه، عن طريق ما تنهبه ميليشياتها في العراق.
وعندما يتعلق الأمر بتسيير عجلة البلاد، فهذه القوة شيء، وتمزيق الكبد شيء آخر.
هذا الوضع يتكرر هو نفسه الآن. حزب الله يريد أن يُملي ترشيح سليمان فرنجية لمنصب الرئيس ويضع الجميع أمام حقيقة أنه “قوة لا يمكن تجاوزها”.
كل الذين يحاولون التوصل إلى “تسوية” مع حزب الله، يضعون في الاعتبار تلك الحقيقة. وحيال واقع أن مرشح المعارضة جهاد أزعور لا يملك فرصة فعلية أمام معاندة “الثنائي الشيعي” له، فإن أقصى ما يمكن للمناورات فعله هو البحث عن “مرشح ثالث” يرضى عنه الحزب.
هذا المرشح، سيكون لا أكثر من سليمان فرنجية آخر، طالما أن “الحزب” سوف يملي شروطه هي نفسها عليه.
الحريري قد يندم على فكرة أنه فتح الطريق لتولي عون الرئاسة، فاندفعت البلاد إلى ما اندفعت إليه. إلا أن الخطأ لم يكن في تنازل يكتشف الجميع الآن أنهم مضطرون إليه مرة أخرى. الخطأ هو أن القبول بترشيح عون، مر من دون وثيقة اشتراطات ملزمة لتنفيذ الإصلاحات والسير على هدى مقررات اتفاق الطائف.
لو أمكن تلافي هذا الخطأ الآن، فإن القبول بترشيح فرنجية أفضل من القبول بغيره. لماذا؟ لأن التنازل أمام فرنجية، يصح أن يأتي بثمن. أما البحث عن “مرشح ثالث”، فإنه سيبدو تنازلا من حزب الله، ليطلب هو الثمن. وهو ما يزيد البلاء الراهن سوءا.
الأزمة الراهنة في لبنان ليست كأزمة الفراغ الرئاسي بين عامي 2014 و2016. إنها شاملة وجذرية وتتطلب تدخلات دولية لكي يمكن للبنان أن يعود فيقف على قدميه من جديد.
◙ الحريري لم يكن الوحيد الذي قدم ذلك التنازل. سمير جعجع فعل الشيء نفسه أيضا. ولكن الحريري هو الذي دفع الثمن
وجود أطراف دولية معنية بالحل، يُضفي على الاشتراطات المسبقة المتعلقة بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية، المالية والإدارية، أهمية استثنائية، ترقى إلى مستوى المسافة بين بقاء الدولة وبين انهيارها.
المعنى من ذلك، هو أن المسألة لا تتعلق بالسؤال عمّن يكون الرئيس، ولكنها تتعلق بالسؤال عمّا يجب أن يفعل، هو وحكومته.
الحريري مرر رئاسة عون من دون أن يحصل منه على وثيقة تُبطل رئاسته إذا ما تخلى عن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
ما هو مطلوب اليوم، إصلاحات أعمق وأشمل. وحيث أن أطراف الإنقاذ الدولية، تضع شروطا لا لبس فيها، ولا سبيل للتآمر عليها، فإن أفضل ما يمكن للمعارضة أن تفعله (حيال فكرة أن “حزب الله قوة لا يمكن تجاوزها”)، هو القول: “تريدون فرنجية، هاتوا فرنجية. ولكن قولوا لنا ماذا يجب أن يفعل حيال شروط الإصلاح المالي والإداري والدستوري المطلوب لإخراج البلاد من أزمتها؟ وقولوا لنا ما هي الضمانات التي يقدمها للبنانيين وللمجتمع الدولي بأنه لن يحوّل الرئاسة إلى عائق كما فعل سلفه، أو أن يتعطل العمل الحكومي بـ’الثلث المعطل“ من جديد”.
لقد كانت رئاسة عون مجرد مؤامرة نفذها “حزب الله” على الإصلاحات. لا يهم من يكون الرئيس. حتى لو عاد عون نفسه، ولكن المؤامرة ضد الإصلاحات هي التي يجب أن تتوقف.
أقاويل الخداع التي يقدمها حزب الله عن “سلاح المقاومة”، تحولت إلى منظومة كاملة من التفاهات التي تقول كل شيء ولا تقول ما تقصده بالفعل. فهذا الكيان المافياوي إنما يرعى دولة موازية لكل أنواع الجرائم والمحرمات. ولكنه يغطيها بسفسطائيات “مقاومة” يدلي بها تاجر مخدرات.
◙ لا أحد يعرف من هو "حزب الله" أكثر من سعد الحريري. قد يمكن أن نتشاطر حول الكثير، إلا أنك لا تستطيع أن تتشاطر في تلك المعرفة مع الحريري
وحيث أنه “قوة لا يمكن تجاوزها”، فمن الخير أن تتوقف حبائل الخداع، لينشغل المتحاورون بشروط القبول بالمطية التي اختارها “الحزب” لكي “يحمي ظهر المقاومة” (أي لكي يتغاضى عن تجارة المخدرات والمعابر الخاصة).
لا شيء يدعو الحريري إلى الندم على أنه رضخ أمام الفكرة التي يرضخ لها الجميع الآن. ولكنه يجب أن يندم على أنه لم يكن صارما في أخذ التعهدات والالتزامات المسبقة. وهو ما يجب أن يلتفت إليه الذين ورثوا المأزق الآن.
يمكن التسليم لحزب الله بأنه يستطيع أن يختار المطية التي يشاء، ولكن لم يعد من المقبول، حيال أزمة طاحنة كالتي يعيشها لبنان، أن تكون مطية بلا رسن.
شروط الإصلاح، على أيّ حال، واضحة المعالم بالنسبة إلى أطراف الإنقاذ الدولية. ويتعين أن تكون، في جانبها المتعلق بالدستور وتطبيق اتفاق الطائف، واضحة المعالم بالنسبة إلى أطراف المعارضة أيضا. هي ومسارات تنفيذها معا.
ها هنا تكمن المسألة. لا توجد مشكلة في أن يرأس لبنان عون آخر. المشكلة، ماذا سيفعل بالرئاسة.