ميلان كونديرا يرحل تاركا خفة لا تحتمل عند كل محبيه

ضجت وسائل التواصل الاجتماعي الأربعاء بخبر رحيل الكاتب الفرنسي – التشيكي ميلان كونديرا، الذي مثل المعلم الكبير في فن الرواية للكثير من الكتاب في شتى أصقاع العالم، فإذا لم يكن من الكتاب المكثرين في النشر فإنه كان من الأكثر تأثيرا عبر أعماله القليلة.
باريس - توفي الكاتب الفرنسي التشيكي المولد ميلان كونديرا، أحد أهم الكتاب الأوروبيين في جيله، عن عمر ناهز 94 عاما.
وأعلنت “مكتبة مورافيا” في مدينة برنو التشيكية وفاة كونديرا، نيابة عن زوجته فيرا، الأربعاء.
وفي تصريح لها قالت آنا مرازوفا، الناطقة باسم “مكتبة ميلان كونديرا” في مدينة برنو التشيكية، مسقط رأس كونديرا، “للأسف، أستطيع أن أؤكد لكم أن ميلان كونديرا توفي أمس (الثلاثاء) بعد معاناة طويلة مع المرض”.
تجربة روائية
وعاش كونديرا، وهو مواطن فرنسي من أصول تشيكية، في باريس لعدة عقود.
وتُرجمت كتبه إلى العشرات من اللغات وبيعت منها الملايين من النسخ في جميع أنحاء العالم.
وحصل كونديرا على العديد من الجوائز، منها جائزة Prix Médicis الفرنسية ووسام جوقة الشرف الفرنسي وجائزة القدس.
وحاز على الشهرة العالمية في عام 1984 مع نشر روايته “كائن لا تحتمل خفته”، وهي قصة تراجيديا عن الحب والمنفى.
وعبر كونديرا في مؤلفاته بسخرية عن حال الإنسان، وكان بين الكتاب النادرين الذين أُدرجت مؤلفاتهم وهم بعد على قيد الحياة في مجموعة La Pleiade (“لا بلياد”) المرموقة في عام 2011.
وجُرد كونديرا الذي ولد تشيكيا من جنسيته الأساسية، ثم استعادها بعد أربعين عاما، لكنه يحمل الجنسية الفرنسية منذ عام 1981، وكان من أشد الروائيين باللغة الفرنسية تأثيرا في العالم.
نشر الكاتب في العام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف ككاتب هام إلا عام 1963.
وصدرت لكونديرا عندما كان لا يزال تشيكيا روايتان هما “الدعابة” التي أشاد بها الشاعر الفرنسي أراغون و”غراميات مرحة” عام 1968، تضمنتا تقويما مريرا للأوهام السياسية لجيل انقلاب براغ الذي مكن الشيوعيين عام 1948 من الوصول إلى السلطة.
وأصبح كونديرا من المغضوب عليهم في بلده بعد ربيع براغ، فغادره إلى فرنسا عام 1975 مع زوجته فيرا التي كانت نجمة في مجال تقديم البرامج على التلفزيون التشيكي.
فقد كونديرا وظيفته عام 1968 بعد الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا، بعد انخراطه فيما سُمى ربيع براغ، واضطر إلى الهجرة إلى فرنسا بعد منع كتبه من التداول لمدة خمس سنين، وعمل أستاذا مساعدا في جامعة رين ببريتاني (فرنسا)، حتى حصل على الجنسية الفرنسية عام 1981 بعد تقدمه بطلب لذلك بعد إسقاط الجنسية التشيكوسلوفاكية عنه عام 1978 كنتيجة لكتابته “كتاب الضحك والنسيان”. تحت وطأة هذه الظروف والمستجدات في حياته، كتب كونديرا روايته الأشهر عالميا “كائن لا تحتمل خفته” التي جعلت منه كاتبا عالميا معروفا لما فيها من تأملات فلسفية تنضوي في خانة فكرة العود الأبدي لنيتشة.
وبعد حصوله على الجنسية الفرنسية، اختار الكتابة بلغة موليير، تعبيرا عن قطعه صلته بوطنه الأصلي الذي سحب منه جنسيته عام 1979 ثم أعادها إليه عام 2019.
وكان كونديرا مقلا في الأحاديث الصحفية، ويفضل أن يتناول الإعلام مؤلفاته فحسب دون أي موضوع آخر، وكان يعيش مع زوجته فيرا في وسط باريس بعيدا عن الأضواء.
وتداول متسخدمو شبكات التواصل الاجتماعي أكثر من مرة أخبارا مغلوطة عن وفاته كان يتبين أنها غير صحيحة.
ثقافة شعب
نظر ميلان كونديرا للرواية وكتبها بالاستناد إلى تقنيات متعددة ومميزة أو ابتكارها أو إعادة إنتاجها، بحيث يكون المنتج الأدبي هو نتاج خبرة وتراكم بينما دافع عن فكرة موت المؤلف بحدة.
وقال الكاتب فرنسوا ريكار في المقدمة التي كتبها عن كونديرا في “لا بلياد” إن كونديرا حقق معادلة غريبة بعد كتابته بالفرنسية، إذ شعر قارئ كونديرا بأن الفرنسية هي لغته الأصلية التي تفوق فيها على نفسه.
وعنه أيضا قال الكاتب البريطاني رينيه جيرار “إن المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها كونديرا ليست إنجليزية على الإطلاق لكونها لا تولي موضوع العمل أو مضمونه الأولوية، بل الأهمية تكمن في الأسلوب الإبداعي والعمارة الأدبية في شكل عام. وعندما قرأت كونديرا في بودابست قررت أن أصبح روائيا تحت تأثير الدهشة والإعجاب بهذا الإبداع. قررت أن أكتب وإنما تبعا لمنهج المدرسة الأوروبية وليس البريطانية”.
انطلق الكاتب من التحصيل المعرفي بالواقع الإنساني (فلسفة، اجتماع، تاريخ، فيزياء، كيمياء… وغيرها) وأدرك متغيراته المتسارعة، والوعي بفاعلية التعالق المعرفي السردي، وتأثير تحولات البنى في هذا التعالق على الإزاحات النوعية في السرد.
ولم يكن كونديرا منفصلا عن قضايا الفن المعاصر فرأى في نمط الكيتش الذي بات منتشرا “الشر الجمالي الأكبر”، سيرا على ما كان قاله هرمان بروخ قبله بأن الكيتش “شر محض داخل الفن”. ذلك أن مصطلح كيتش في رأي كونديرا يدل على سلوك من يبحث عن الإعجاب لدى أكبر قدر ممكن من الناس بأي ثمن، لأنه يسعى إلى التأكيد على ما يريد الجميع أن يسمعه، مثلما يعكس الجمال والتأثر في تبلد الأفكار المسبقة.
كما أنه لم ينفصل عن قضايا التشيك حتى بعد إسقاط الجنسية عنه، بينما كان واعيا بأن محاولات الكتابة عن الأوطان بلغة السياسة تختلف عن الكتابة بلغة فن الرواية، وأن الروائي عندما يروم تناول قضية لها علاقة بالوقائع الاجتماعية فهو كمن يتجول داخل حقول ألغام؛ ينجو إذا جعل من مفردات الرواية سلاحه، ويفشل إذا استعان بلغة الخطابة والشعارات والمباشرة، وكان كونديرا من الكتاب الكبار في تنقله بخفة مطلقة بين تلك الألغام وهو يخوض عبر رواياته في قضايا التشيك والشيوعية والقمع السياسي وغيرها مما ارتبط بمرحلة الاتحاد السوفييتي.
ألم يقل ميلان كونديرا “الشعوب بإمكانها أن تظل حية، وقائمة الذات في ظل تغيرات الأنظمة وتحولاتها، أما أن تُفرَغ أمة من ثقافتها، أي من ذاكرتها، ومن أصالتها، فإن هذا لا يعني شيئا آخر غير الحكم عليها بالإعدام” هكذا إذن جعل أعماله ترسخ ثقافة شعبه.
وكان الكاتب يراهن على إبقاء ملامح شعبه حية في تطلعات شخصياته التي تراوح بين النساء والرجال المثقفين والمبدعين والسياسيين والمسحوقين والمهاجرين واللا مبالين وغيرهم من الأمثلة التي لا تكون مباشرة في تعبيرها بقدر ما تعيد تمثيل التاريخ من زوايا منسية ومهمشة تماما.