"عمر لافراز".. لحظات لطيفة وكوميديا رغم تخبط وفوضى السيناريو والإخراج

تغوص الكثير من الأفلام الجزائرية في الواقع الاجتماعي للجزائر دون تزويق أو مجاملة، فتكشف الكثير من أعطابه ومشاكله وما تواجهه مختلف شرائحه، ولعل أكثر الشرائح التي اشتغلت عليها السينما الجزائرية ومازالت هي المهاجرون، أولئك الذين يمثلون معضلة وجودية كبيرة في تمزق الإنسان الجزائري والمغاربي ككل بين ضفتي المتوسط، وبين ثقافتين وعالمين لا هم من هذا ولا من ذاك. وهذا ما يحاول تقديمه الفيلم الجزائري الجديد “عمر لافراز”.
الفيلم الجزائري “عمر لافراز” والذي يعرض حاليا في بعض صالات العرض بفرنسا، يبدو أنه لم يعتمد على نص أدبي وربما فضل المخرج إلياس بلقادر والنجم رضا كاتب أن يأخذ فيلمهما نواحي عديدة متشعبة واتجاهات مثيرة مع لمسات رومانسية وبعض الكوميديا مع مزيج من الأكشن والدعاية السياحية.
ثمة في الفيلم تلمس لبعض المشاكل الاجتماعية مثل تناول قضية أطفال الشوارع والتشرد والجريمة، وبعض المشاهد كان مقنعا وبعضها ربما كان يحتاج إلى المزيد من التفكير، ولعل ميلاد قصة رومانسية حاولت أن ترتفع بالفيلم وربما أنقذته فعلا.
كانت سامية (مريم عميار) أكثر من بديعة في أدائها المتنوع وكل شيء في وجهها يكاد يتدفق بالروعة وليت المخرج منحها مساحة أوسع، عمر (رضا كاتب) وروجر (بنوا ميغيمال) قدما ما بوسعهما من كوميديا ولعل بعض الفوضى والتخبط أدى إلى بعض الهبوط، ولكنها تجربة جيدة كفيلم أكشن وكوميدي، يمكنها التحريك وتنشيط الحلم بعودة قوية للسينما الجزائرية.
عصابة الأطفال
حكاية الفيلم ليست معقدة حيث يعود عمر إلى الجزائر بعد الحكم عليه في باريس بسبب تورطه بقيادة عصابة وممارسته الكثير من المخالفات والتي تصل إلى مرتبة جرائم جسيمة، ولا أمل في تخفيف هذه الأحكام، يعود مع صديقه روجر أو روجيه والذي يدعمه، وتكون لديهما كمية ضخمة من المخدرات ويبدو أن عصابة محلية عرفت بموضوع المخدرات وحاولت سرقتها.
المطلوب من عمر أن يعيش بهدوء ودون لفت انتباه الشرطة ويشارك في إدارة مصنع صغير للبسكويت وهنا يتعرف على سامية ويحاول التقرب منها وكذلك يلتقي بشلة عصابة من الأطفال، وهكذا كان من المخطط أن تمضي الأحداث بين الأزقة الفقيرة والكبريهات وكذلك رحلة صغيرة إلى الصحراء وموضوعات متفرقة بين الضحك والعنف حاول الفيلم أن يعرضها كقصص درامية ديناميكية وتثير السخرية، ولكنه حاول أيضا أن تكون مبطنة بالتراجيديا وهي تراجيديا الواقع اليومي المعيش دون العودة إلى الماضي.
كان من الجيد أن يورطنا السيناريو في قضية أطفال الشوارع كقضية وحالة ومشكلة وطنية وإنسانية، ولا بأس من كل المبالغات الممكنة حتى يثير انتباه الجهات الحكومية والمجتمعية، ولكن وقع الفيلم بعدة أخطاء قاتلة وظهر هؤلاء الأطفال كأنهم يعيشون سعداء أحرارا، والأكثر من ذلك متحدين ومتضامنين ولا صراعات بينهم، وحتى ننتبه بوجود طفل أو طفلة بملامح ملائكية وثياب نظيفة ووجه نظيف وابتسامة ملائكية أي كمن لا موقع له من المكان ولا من الأحداث.
وسار كل شيء بشكل عادي من حيث الديكوباج وأحجام وزوايا الكاميرا ووضعياتها وحتى المونتاج، فلم نلاحظ دهشة ولا خلقا فنيا أو تفجيرا لدلالات أو رموز بليغة يمكن أن يشار إليها ويعاد تحليلها ودراستها.
ثمة لحظات قصيرة جدا مع الطبيعة وتصوير المدينة من وجهات نظر متعددة وكذلك الأزقة وكأن المخرج طمح إلى أن يعرض عدة عوالم متناقضة في هذه المدينة، وحتى الأزقة الخطرة فيها ناس طيبون ولا دخل لهم بالجرائم ولا العصابة المتخفية بينهم، وربما كان الفيلم سيكسب دلالات أكثر قوة لو أنه أكد أشياء كهذه، ما أروع ملامسة الكاميرا للوجوه والابتسامات لهؤلاء الناس القابعين في الهامش وكانت هذه الملامسات بسيطة وسريعة وليتها فعلت أكثر وصورت لنا المزيد من هذه اللقطات العفوية الحياتية.
ما بين ضفتين
يتكون طاقم الفيلم من ممثلين محترفين وهواة وهذا خلق بعض اللحظات اللطيفة وكوميديا عفوية بديعة، يتمتع رضا كاتب بجمهور وخبرات وأحدث الكثير من التناغم مع بنوا ميغيمال، لكن لم نكد نلمس الانسجام التام السريع مع مريم عميار، وهذا من نواقص السيناريو، لكن استطاعت عميار أن تلفت إليها الكاميرا وتثيرها، وربما يأتي مخرج متمكن وبسيناريو أكثر قوة ليفجر طاقات هذه المبدعة ويظهر ما تتمتع به من قدرات فنية خلاقة.
ولم ينجح الفيلم في تفجير ملامح أسطورية وكان بمقدوره خلق ما يشبه مجتمع الصعاليك مثلا مع عصابة الأطفال، أو الجميلة والوحش لو أنه تنبه للقصة العاطفية، فمثلا أن تعيد سامية تشكيل عمر إنسانيا، فقد حاولت اللقطة الأخيرة أن توحي لنا بأن أخذ الأطفال جميعا بالسيارة أشبه بنهاية نحو الخير وبقيادة سامية، ولكنها فعلت ذلك بعد أن تلوثت يد هؤلاء بدماء وعنف لصالح عمر الذي طلب دعمهم كي ينتقم لصديقه.
وركز الفيلم على مشكلة العودة إلى الأصول والمنبع وعودة مغتربين إلى موطنهم الأصلي وبعد سنوات طويلة، والسؤال الذي يتكرر من حين إلى آخر هو هل هذا العائد يشعر بأنه فرنسي أم جزائري؟
الكثيرون كما تقول سامية يعودون ثم يغادرون ولا يشعرون بأنهم في وطنهم، فلا هم يعرفون الأرض ولا اللغة ولا الناس ويشعرون بالغرابة والفشل في التأقلم، رغم أنهم في البلدان الأوروبية يعيش الكثير منهم في أحياء شعبية ويتكلمون لهجة شعبية وليست فرنسية صافية، والبعض يبالغ بالتذمر عند عودته ويفضل حياة العزلة والفقر في المهجر على العودة للحياة في وطنه.
لم يجد الفيلم الشهرة والاحتفاء اللذين طمح إليهما صانعوه وأكثروا من التصريحات الصحفية والمبالغات بأنه يُقدم الجزائر ويُقرب الحوارات بين الضفة الجزائرية والفرنسية ومن هم في الوطن ومن هم في بلدان المهجر، ورغم الكثير من الملاحظات فمن الجيد أن نستفيد منها من أجل المستقبل وأي تجربة لها سلبياتها وإيجابياتها ويجب ألا يتوقف هذا الحراك السينمائي الجزائري والعربي وربما يكون القادم أفضل.
