"المحكور ما كي بكيش" سينما مغربية اجتماعية تقرأ الواقع بلا محاكمات

المخرج المغربي فيصل بوليفة يقدم نظرة أخرى لمجتمعه بلا فوقية أو دونية.
الأحد 2023/07/02
قراءة سوسيولوجية عميقة بأدوات سينمائية ناضجة

تعرف السينما المغربية بمواجهتها الجريئة للواقع، وغالبا ما تخلق هذه الجرأة مشاكل أمام عرض الفيلم في بيئة محافظة، بينما بات الكثير من المخرجين يفتعلون الإثارة لإحداث الجدل وبالتالي الترويج للفيلم. وقليلة هي الأفلام التي تعالج القضايا الاجتماعية للهامش بشكل رصين لا يدخل في باب المواعظ أو الصراخ أو المحاكمة أو المبالغة والافتعال وغيرها، بقدر ما يهمها كشف الواقع كما هو دون مواربة.

شاهدت فيلم “المحكور ما كي بكيش” للمخرج المغربي فيصل بوليفة ضمن فعاليات ملتقى السينما المستقلة الثاني الذي عقد من العشرين إلى الثاني والعشرين من يونيو بمدينة كون بمنطقة النورماندي بفرنسا، من الرائع أن تحضر أربعة أفلام عربية في هذا الملتقى القصير والذي كان مشحونا بنقاشات وورش تعارف بين الموزعين المستقلين وكذلك عروض خاصة لعدة أفلام.

فيلم “المحكور ما كي بكيش” من الأفلام التي تستحق مشاهدة تأملية، فهو يتعرض للعديد من التابوهات مثل الدعارة والمثلية الجنسية، ولكنه يختلف كثيرا عن أغلب الأفلام المغربية التي تناولت هكذا مواضيع، وبعضها تم منعه وبعضها الآخر كان مباشرا جدا وكأنه كان يبحث عن المنع والمصادرة لتحقيق الرواج.

قراءة لواقع إنساني

هذا الفيلم لا يقارن بالكثير من الأفلام التي تتعمد أن تحشو بداخلها العشرات من المشاهد الجنسية الوقحة المباشرة جدا

لا يمكننا أن نقارن هذا الفيلم بالكثير من الأفلام التي تتعمد أن تحشو بداخلها العشرات من المشاهد الجنسية الوقحة المباشرة جدا ولا تستخدم اللغة السينمائية ولا دلالتها الساحرة، ولا وجه للمقارنة بين هذا الفيلم وتلك الأفلام “النص نص”، أي تبحث فقط عن الإثارة والشهرة ولو بالمنع والمصادرة.

يستحق فيلم بوليفة أن نشاهده وأن نصفق له أيضا، فحتى تعرّضه وكسره للتابوهات جاء بوعي وضمن شكل ومضمون السينماتوغراف.

نحن مع فيلم يمكن أن يصنف كسينما اجتماعية وقراءة للواقع الإنساني، ولكن ثمة حساسية وتواترات عدة تمسك بالمتلقي وتجعله يقترب أكثر لفهم هذه الشخصيات المتناقضة.

نحن مع سيناريو فيه الكثير من الحذر في كل خطواته والكثير من الانقلابات. فاطمة الزهراء، سيدة تقول إنها عصرية وتعيش مع ولدها الوحيد سليم، تنتقل من مدينة إلى مدينة، يصبح سليم شابا يافعا وتتقدم السنوات بالأم، لا يعرف سليم عن أمه أي شيء ولا يعرف أباه، ويصدق رواية أمه أنها تعمل وكافحت لتربيته، ويبدو مرتبطا بها جدا وعلاقتهما حميمية حيث يسمح لها أن تغسل جسده وينام بالقرب منها أو في حضنها.

تخفي الأم مهنتها الحقيقية، أي عملها كعاهرة، وأن سليم غير معروف الأب، لكنها من خلال عملها هذا لم تجن المال الكثير وحياتها أقل من الصفر، فلا بيت ولا مال ولا عائلة ولا سمعة وشرف، ثروتها الوحيدة هي سليم والذي أصبح رجلا الآن.

يصور الفيلم الأم وكأنها عاهرة للبسطاء، وفي المدن الصغيرة الفقيرة وبعد أن يعتدي عليها أحد الزبائن تشعر أنها تود العودة إلى عائلتها، وفعلا تحمل بعض الهلاهيل وتذهب إلى بيت العائلة، ولكنها لا تجد الترحيب، ويفتضح سرها أمام سليم الذي يكتشف أنه مجهول الأب أو ليس لديه نسب.

 ولم يتم استخدام كلمة ابن حرام، وهكذا ينتقلان من مدينة كازا (الدار البيضاء) إلى طنجة لتكون مستقرّها، وهناك كأن سليم يراجع أفعال أمه ورغم أنه غير متعلم ولا مثقف إلا أنه يدرك العار والخيبة التي يعيشها وينتبه لتصرفات الأم ويحجر عليها الخروج من البيت، ويذهب هو ليحصل على أي عمل مهما يكون ليحفظ أمه.

البعد عن الصراخ

المخرج فيصل بوليفة ظل كفنان متأمل لم يحاكم شخصياته وهي بالنسبة إلى المتلقي الواعي أبرز مميزات الفيلم
المخرج فيصل بوليفة ظل كفنان متأمل لم يحاكم شخصياته وهي بالنسبة إلى المتلقي الواعي أبرز مميزات الفيلم

كان لدى سليم الكثير من الغضب تجاه أمه ولكنه لم يقترف الكثير من العنف ضدها أو ضد نفسه رغم فداحة الصدمة الكارثية، وظلت فاطمة الزهراء أي الأم تثق بنفسها وجمالها وقدرتها على تعدي الكوارث، وهي التي تسمي نفسها بالمرأة العصرية، وكأنها تعلم أن ذلك قدرها يسوقها إلى المطبات وعليها أن تدبر رأسها.

يحسب لبوليفة أنه نأى بنفسه عن الولولة والصراخ والزعيق والتي تكاد تكون من بعض سمات السينما المغربية وهو لا يجرنا ولا يستعطفنا ويجعل الشخصيات تدافع وفق منطقها عن نفسها، وهذا أيضا ينطبق على الرجل المثلي الفرنسي سيباستيان وكذلك العديد من الشخصيات والتي تظهر بالبداية كأنها مقنّعة بالفضيلة والكمال ثم تنكشف الأقنعة، نحن في مجتمع إنساني ومع أفراد وشخصيات يعيشون بمحن خانقة وأغلب الشخصيات من الهامش البائس وخياراتها تكاد تكون معدومة.

من مميزات المخرج أنه ظل كفنان متأمل ولم يحاكم شخصياته ولم يعلق أحدا على المشنقة، وهي بالنسبة إلى المتلقي الواعي سمات إنسانية جميعها، ولا تبدو أي شخصية من شخصيات العمل شريرة، حتى الأم التي امتهنت الدعارة الرخيصة كان بمقدورها أن تخرج ما في بطنها بعد معرفتها بالحمل دون زواج أو رجل يعترف بولدها، ولكنها رفضت أن تقتل جنينها وضحت بشرفها وعائلتها لكن الأقدار دفعتها إلى هذه المهنة، قالت لها إحدى أخواتها إن هناك أطباء يفعلون هذا، وأنها كان بمقدورها بعد ذلك الزواج، لكنها لم ترد الإجهاض وحملت حاجاتها وتركت بيت العائلة لتنجب ولدها وترعاه.

سليم وفي أول اختبار له في الحياة، ساقته ظروفه نحو ورطة وخيارات صعبة، فهو بحاجة إلى المال وها هو المال بيده بشرط أن يقبل إمتاع سيباستيان التواق إلى اللذّة، فعلها سليم بسرعة وهرب وكأنه هرب من الكاميرا ومنا، ثم تاق سيباستيان أن يستمتع أكثر وأن يشاركه سليم المتعة وليس مجرد الموجب الفاعل تحت سياط الفاقة والحاجة المادية، ولكن ثمة فروقات كثيرة بينهما وكأن سيباستيان أي الرجل المثلي الغربي والمتحضر يحاول أن يبرر لنفسه أو يبحث لها عن أعذار ولو مخادعة، وكأنه يخاف من تهمة العبودية الجنسية أو الاستغلال، وهنا تم وضع الأحداث وبعض ما لمحت به الشخصيات لتدافع عن نفسها وكأنها جميعها في ورطة وهنا ينجح الفيلم ويثير الأسئلة عن كل هذه المواضيع الشائكة هنا وهناك.

العمل في الجنس

الجميع هنا بشر فلا مثالية ولا شرّ كامل
الجميع هنا بشر فلا مثالية ولا شرّ كامل

بعد تعرف فاطمة الزهراء على مصطفى ووعده لها بالزواج، هنا سنلاحظ أنها تتبعه وتصلي خلفه، ولاحظنا أن المصحف يكون من ضمن حاجيات الأم في كل تنقلاتها من سكن إلى سكن، لم يناقش المخرج أو يبرر هذا، في الجزء الأخير من الفيلم يبدو أن الأم تابت وتغفر لولدها كل شيء وهو يخبرها أنه فضحها وأخبر مصطفى بكل ماضيها السيء. بينما يظهر لنا مصطفى كمن يبحث عن المتعة وخادمة لأطفاله وامرأة شريفة أو بلا ماض مفضوح، وذلك تحت بند الحلال.

فيصل بوليفة البريطاني – المغربي يسلط هنا بعض الحقائق الحياتية القاسية لشخصيات من الطبقة البروليتارية ويثير الفيلم النقاش بشجاعة حول موضوع العمل في مجالات الجنس وهل هو مسار فيه خيارات أم نحن إزاء استعباد مقنع، كما فعل سيباستيان المتحضر مع سليم الكادح وربما القاصر أيضا، وكما يحدث تحت مسميات الحلال (مصطفى وفاطمة الزهراء).

شاهدنا الشابة الصغيرة الفقيرة جارة سليم تقول إن الأغنياء يشترون دمى على شكل فتيات ويفعلون كل شيء وكل هذه صناعات صينية رخيصة، وكأنها تعترض وتخاف على الجنس الناعم، وبعد ذلك يشاهدها سليم في ناد ليلي وأكيد أنها ستقدم خدماتها وقد تكون صرحت أنها تسعى إلى اللذة أيضا والتي تحصل عليها دمى من السيليكون والبلاستيك، وهي أيضا نموذج يرد بشكل خاطف.

النهاية المفتوحة

الشخصيات تدافع وفق منطقها عن نفسها
الشخصيات تدافع وفق منطقها عن نفسها

تظل النهاية مفتوحة لكل التأويلات ولم يدّع المخرج امتلاكه لحلول سحرية لكل هذه الإشكاليات الضخمة والمعقدة، الأم كأنها تصالحت مع المجتمع تبتسم وتصفق لموكب عرس تقليدي ويزج بها للمشاركة برقصة صغيرة، ويخرج سليم من السجن وكأنه اختار طريقا مختلفا ولا ندري إن كان سيظل يعمل في مجال الجنس أم لا؟

القبض على سليم وكأنه مصالحة صغيرة من المخرج مع السلطات، وكان قد صور لنا ما تفعله الوساطات من تسريع أي معاملات معقدة (استخراج بطاقة وطنية لسليم وهو عديم الأب) ورغم أن البطاقة الوطنية حق مقدس إلا أن هذا الحق من المستحيلات في الكثير من الدول العربية لحالة كحالة سليم.

كان المخرج ذكيا وقذف بحجر واحد ليهز أكثر من بركة راكدة ولم يكن هجوميا ومباشرا وتحاشى الألفاظ النابية والجارحة وكذلك المشاهد الجنسية المباشرة وحتى لا يكون هناك أي مبرر لمنع الفيلم أو تصنيفه ضد البلد أو يشوه سمعته، فنحن مع قراءة عميقة سوسيولوجية وأدوات سينمائية ناضجة ومدروسة.

وكان أداء الممثلين أكثر من جيد وخاصة الأبطال عائشة طيبة وعبدالله الحاجوجي وأنطوان رينارتز وبقية الكادر، وثمة انسجام وقيادة جيدة في إدارة الممثلين وهذا أيضا يحسب للمخرج ومنتجي الفيلم، كما لم نلاحظ فوقية ولا نظرة دونية للمجتمع المغربي ولا تشويهات مفتعلة ولا تمجيدا لأخلاق الأوروبي، الجميع هنا بشر.

12