الحوار الوطني حرّر الإعلام المصري من الاصطفاف خلف الحكومة

الحرية تكتمل مع عرض رؤية المعارضة بالتوازي مع الموالاة بعد انتهاء الحوار.
السبت 2023/05/20
على مسؤولية من

يأمل الكثير من العاملين في مجال الإعلام المصري أن تظل السياسة التحريرية المتوازنة مستمرة، وغير مرتبطة بالتوقيت الزمني المرتبط بالحوار الوطني، كون الحياد والموضوعية والمهنية الموجودة في الوقت الراهن لم تنتج عنها منغصات سياسية أو تسببت في إثارة الرأي العام ضد النظام، بل على العكس هناك شعور بوجود تغيرات إيجابية قادمة في المشهد الإعلامي برمته.

القاهرة - “دون مونتاج”، بهذا العنوان القصير عرض برنامج "على مسؤوليتي" الذي يقدمه الإعلامي أحمد موسى على فضائية "صدى البلد" المصرية آراء بعض المواطنين في الشارع حول مطالبهم من الحكومة، في إشارة تعكس تغيرا واضحا طرأ على السياسة التحريرية للكثير من المنابر الإعلامية، بالتزامن مع انطلاق جلسات الحوار الوطني بمشاركة قوى وتيارات سياسية، بعضها محسوب على المعارضة.

بدأ الجمهور المشارك في الفقرة التي أذيعت ببرنامج الإعلامي أحمد موسى، وهو من المقربين من الحكومة، بتساؤلات حول إذا كان كلامهم سيتم عرضه على الشاشة دون مونتاج أو حذف للعبارات التي تنتقد الحكومة أم لا.

جاء الرد من المراسل بأن كل ما سيقوله الناس سيُعرض بلا اجتزاء كلمة واحدة، حتى لو كان به هجوم على أيّ مسؤول، وبالفعل أذيعت الفقرة كاملة.

تذكر مصريون ما جرى منذ أشهر عندما أذاع الموقع الإلكتروني لصحيفة “الوطن” فيديو لمواطن انتقد فيه سياسة الحكومة حيال رفع أسعار المحروقات، وقتها ألغت الجهات المسؤولة عن الإعلام في مصر البث المباشر عموما من كل المواقع. وتبدو المقارنة ظالمة الآن، لأن الكثير من وسائل الإعلام المصرية لديها تعليمات مباشرة بعدم حذف تصريحات المعارضة مهما حوت من انتقادات للحكومة.

قبيل انطلاق الحوار، كانت غالبية الصحف والمواقع الإخبارية أشبه بنشرات رسمية، مهمتها تبييض وجوه المسؤولين

وحدث تحرر نسبي غير معهود، على الأقل خلال السنوات الست الماضية، في مسألة الاصطفاف خلف الحكومة والتمجيد المطلق لها لحساب تناول الرؤى المختلفة جزئيا أو كليا، مع توجهات السلطة، في رسالة مباشرة بأن دوائر الجهة المسؤولة عن إدارة المنظومة الإعلامية اقتنعت بأنه لا مجال لتكريس مصداقية الحوار بلا حرية إعلامية.

وحاول فريق من المتفائلين الحد من اندفاعهم نحو المستقبل بعد إعلان الإعلامية قصواء الخلالي إلغاء الحوار مع المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي على قناة “سي بي سي” الأحد المقبل، مؤكدة أن الإلغاء تم بناء على تعليمات الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، المسؤولة عن إدارة عدد كبيرة من وسائل الإعلام.

تشارك المنابر الإعلامية، المقروءة والمرئية والمسموعة في متابعة جلسات الحوار الوطني، وتنقل ما يحدث داخل جلساته من كواليس وبث لكلمات ومداخلات المشاركين من المحسوبين على المعارضة مهما كانت انتقاداتهم للسلطة، وهو ما لم يكن موجودا، لكن ذلك جاء تنفيذا لتكليفات من الرئيس عبدالفتاح السيسي بإذاعة الجلسات كاملة.

وتؤكد الكثير من الشواهد أن ثمة تكليفات مباشرة وصلت القيادات الإعلامية بالانفتاح على جلسات الحوار، وعدم الممانعة في نشر ما تقوله المعارضة، فمن الصعب على رؤساء التحرير في الصحف والمسؤولين في القنوات أن تصل بهم الجرأة إلى تناول النقد الحاد من بعض الأصوات للسلطة دون أن تكون هناك موافقة مسبقة على ذلك أو اقتصار النشر على الرؤى المؤيدة للنظام.

الكثير من الشواهد تؤكد أن ثمة تكليفات مباشرة وصلت القيادات الإعلامية بالانفتاح على جلسات الحوار

قال محمد (ص)، وهو اسم مستعار لصحافي يعمل في صحيفة إلكترونية تابعة لمؤسسة حكومية، إنه أبلغ مديره المباشر بأن بعض كلمات المشاركين في الحوار قاسية، ومن الصعب نشرها وفقا للسياسة التحريرية السابقة، وتحتاج إلى مراجعة المحتوى، لكن المدير وافق على النشر بلا حذف، قائلا “لا مشكلة في هذا الكلام، وسننشر للمعارضين قبل المؤيدين”.

وأضاف الصحافي لـ”العرب” أن الذي بات يتم نشره في الإعلام منذ انطلاق الحوار كان دربا من الخيال، ولا يمكن التطرق إليه في المحتوى التحريري ولو من قبيل التلميح، معقبا “لم يعهد الصحافيون أن يكون هناك خبر يُمجّد الحكومة وآخر على لسان رئيس حزب معارض ينتقد سياساتها ويطالب بتغييرها”.

وتوقع جلال نصار الخبير الإعلامي المصري أن يكون اقتناع الحكومة بعدم وجود مخاطر سياسية أو اجتماعية من انفتاح الإعلام بداية للمزيد من رفع القيود المفروضة على المهنة، لأنها ظلت متخوفة من ترك الإعلام يتحرك بأريحية أو تدخلات تحول دون تحول بعض المنابر إلى منصات معارضة، لكن الحرية جاءت بنتائج إيجابية.

وقبيل انطلاق الحوار، كانت غالبية الصحف والمواقع الإخبارية أشبه بنشرات رسمية، مهمتها تبييض وجوه المسؤولين والدفاع عن قراراتهم لدرجة أن هناك منابر كان يتم تصنيفها بأنها متخصصة في فضح كل من يختلف مع الحكومة بتسريب معلومات مسيئة عنه أو إذاعة مكالماته ولقاءاته السرية كنوع من الترهيب، وإثبات ولاء المنبر الإعلامي للجهة التي تحركه وترسم له الخطوط.

متابعون يقولون إن الحكومة لو كانت جادة في تحرر الإعلام من القيود عليها أن تكف عن الاستعانة بمسؤولين بعضهم يفتقد لأصول المهنة

وترتب على هذا الوضع تحول العديد من الصحافيين إلى موظفين يتلقون البيانات، وهناك رؤساء تحرير يكتفون بنشر الروايات الرسمية فقط بلا تعمق أو تحليل أو تفسير، حتى بدت بعض الصفحات على شبكات التواصل الاجتماعي أقوى في التأثير والنفوذ من صحف ومواقع وبرامج حكومية، ما جعل شعبيتها تصل إلى الحد الأدنى.

وأوضح جلال نصار لـ”العرب” أن العبرة في الانفتاح الإعلامي أن يكون مبنيا على أسس وقواعد، لا مجرد ارتباط التحرر بحدث سياسي مثل الحوار الوطني، لأن إصلاح المهنة ينطلق من وجود أدوات تسهل مهمة العاملين بها على التحرك بأريحية، طالما أن ذلك يتم على أرضية وطنية، وتقتنع دوائر صناعة القرار الإعلامي بأنه لا يمكن التوحد خلف الحكومة بدليل أن هناك معارضة سياسية، ومن الطبيعي أن تكون هناك معارضة إعلامية.

ومن المهم التحرك الفعلي لإصدار تشريعات تصون الحريات وتضمن إطلاق سراح سجناء الرأي ومنح الفرصة لوسائل الإعلام لتغطية الموضوعات المختلفة، ورفع الحجب عن المواقع الصحفية، ومنع الحبس في قضايا الرأي والنشر وإصدار قانون حرية تداول المعلومات.

ويقول متابعون إن الحكومة لو كانت جادة في تحرر الإعلام من القيود، وإفساح المجال أمامه لمناقشة مختلف القضايا بحيادية ومهنية دون محاذير عليها أن تكف عن الاستعانة بمسؤولين بعضهم يفتقد لأصول المهنة، ويطبق سياسة تحريرية محاطة بجملة من الخطوط الحمراء، حتى لو لم يُطلب منهم ذلك، لأن هؤلاء يعتبرون التوازن والتعمق وتلبية احتياجات الجمهور خروج عن النص.

ولا تزال معضلة المسؤولين عن إدارة الصحف القومية والكثير من مقدّمي البرامج على الشاشات الرسمية أنهم مقتنعون بأنهم تابعون لمؤسسة حكومية ولا يجب أن يغردوا خارج السرب أو يسمحون بتبني وجهات نظر مختلفة، مع أن الرئيس السيسي شخصيا، لا يمانع من وجود أصوات تنتقد الأوضاع الخاطئة، لكنّ هناك مسؤولين في الإعلام ملكيون أكثر من الملك.

وإذا استمرت تلك العقليات مسيطرة على مجريات الأمور داخل الإعلام المصري فلا مجال لتحرره من القيود ليصبح أكثر انفتاحا ومهنية حتى لو كانت الحكومة نفسها سمحت بذلك، أو لم تتدخل في تحديد سياسة تحريرية محاطة بالمحاذير، ولا بديل عن الاستعانة بكوادر مهنية تُدرك أن الإصلاح السياسي ينطلق من الحريات الإعلامية، بما يخدم المهنة والسلطة على حد سواء.

5