الباحثة التونسية زهرة الثابت لـ"العرب": أجساد الأنبياء نصوص تحتمل التأويل

إذا قرأنا بعض الكتب العربية القديمة حتى من عناوينها التي تتناول قضايا جنسية وألف أغلبها شيوخ ورجال دين مطلعون، سنرى مقدار الجرأة الكبيرة في الحديث عن موضوع الجنس، جرأة ما انفكت تتراجع في مفارقة غريبة، حتى أن الموضوع صار من التابوهات التي لا يجب الاقتراب منها، وهو ما يدعو إلى وقفة جريئة تراجع موضوع الجنس والرجل والمرأة والتفكير الديني المتحرر من النظرة الأحادية المتطرفة. في هذا الصد كان لـ”العرب” هذا الحوار مع الباحثة والأكاديمية التونسية زهرة الثابت.
تختلف اختصاصات الباحثة والأكاديمية زهرة الثابت، لكن يبقى اختصاصها في الدكتوراه “أديان مقارنة” مساهما بارزا في رسم ملامح بحوثها التي توزعت بين الأدبي والحضاري والفكري والتاريخي، متطرقة حتى إلى النص المقدس في قراءة جريئة تربط بينه وبين الجانب الجنسي الذي له حضور بارز فيه.
الجنس والمقدس
العرب: علاقة المقدس بالجنساني في كتابك “العشق في النصوص المقدسة” اختيار الموضوع يدعوني للسؤال عن كيفية ولادة الفكرة لديك والجرأة للخوض فيه؟
زهرة الثابت: لا أرى غرابة أو مانعا في الربط بين المقدس والجنساني إذا كان النص المقدس نفسه يبارك الجنس ويدعو إلى التكاثر والاستخلاف وفعل الخلق، فأنت إن قلبت النظر في العهد القديم أو القرآن الكريم وجدت أن قصة خطيئة آدم وحواء وفي أبعادها القصية ليست إلا القصة البدائية الأولى لتأسيس مفهوم الجنس، إذ هي القصة التي اختلقها الإله ليشرع فعل الجنس. فعن طريق الأكل من الشجرة المحرمة كشفت العورة وأدرك الزوجان في المرجعية اليهودية أنهما عريانين “فخاطا لأنفسهما مآزر من أوراق التين” (التكوين 3: 7) واختبآ في حضرة الرب. أما في القرآن الكريم فقد “بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة” (الأعراف 7: 21).
عن طريق اختراق الحظر أيضا تملكت الرغبة آدم حتى أنه قد عاشر حواء بعد أن طرده الرب من جنة عدن (انظر التكوين 4:1-2)، أما في نص الوحي الإسلامي فقد خلق من كل نفس زوجها ليكثر نسلها مثلما يجليه قوله تعالى “يا أيّها النَّاس اتقُوا رَبّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء” (النساء 4: 1). وأباح النكاح والمتعة المنظمة.
تناولنا لعلاقة المقدس بالجنساني إنما كان هدفنا الأسمى منه البرهنة على أن الحدود بين هذين الطرفين واهية، إذ الجنس ليس إلا بعضا من صور المقدس وليس إلا طريقا أسمى لبلوغ المطلق والكمال. باختصار إن الجنس صناعة المقدس. وهو أمر لا تختص به النصوص المقدسة وحسب، إذ منذ الأساطير السومرية القديمة باركت الآلهة الجنس فمارس الإله “آن” إله السماء الجماع مع الإلهة “كي” (الأرض) وصب سائله في جسدها فكان الفعل الجنسي علامة على التكاثر والخلق. بعبارة أخرى الجنس لعبة صنعها الإله وأبدعها ليظل المرء مهووسا بها منجذبا إليها لأنها سر استمراره بالحياة. بل هي آية من آيات حضور المقدس.
العرب: يقول عبدالرزاق القلسي “قوة هذا البحث وطرافته في أنه يقر أن لجسد الأنبياء والمرسلين خطابا. وإنما يصبح الجسد كالنص تقريبا حقلا للتخييل والتأويل”. يقودنا هذا التحليل إلى تأويل مختلف وخطاب جديد؟
زهرة الثابت: أعتبر أن دراسة الأستاذ عبدالرزاق القلسي هي من الدراسات الجادة التي اهتمت بكتابي “العشق في النصوص المقدسة” إلى جانب دراسة الدكتور باسم المكي “تقديم كتاب العشق في النصوص المقدسة”. وفعلا عملي هذا كان محاولة لقراءة جسد الأنبياء على اعتبار أنه نص تخييلي بامتياز وخطاب يحتمل التأويل فتجارب الأنبياء كانت عدتنا التي انطلقنا منها لقراءة الظاهرة الإيروسية وتفكيك الجسد النبوي العاشق فاتضح لنا أن هذا البنيان كون رامز يفيض بالعديد من المعاني الغميسة التي تستوجب الإفصاح عنها والوقوف عندها.
العرب: هناك جرأة في التفكير والطرح لديك ولدى مجموعة أخرى من الباحثات في تونس داخل مجتمع تحكمه عادات وتقاليد بدرجة تابوهات، ألا يعرضك هذا لاتهامات خطيرة منها التكفير مثلا؟
زهرة الثابت: لا بد أن يتوقع الباحث طرحا مخالفا لطرحه وفكرا مضادا لفكره، وقد كنا واعين بمثل هذه الاتهامات التي ذكرتم منذ البدء لذلك ألمعنا إلى هذا الأمر في فاتحة كتابنا، وأعتقد أن النظرة التكفيرية لن تتأتى إلا من فكر منغلق متطرف سيج الدين بجملة من القيود والأحكام الوهمية التي لم يأت الله بها من سلطان والتي صنعها لنفسه ظنا منه أن فهمه ذاك هو الأصيل.
فإذا بنظرته قاصرة لأنها تسعى لتثبيت صورة رجعية محنطة عن رؤيتها للدين وعن فهمها البسيط لنص الوحي. ونزعم أن ما قمنا به ليس إلا محاولة لقراءة النص الديني في ضوء آليات ومناهج حديثة قد نخفق في مواضع ونوفق في أخرى لكننا على يقين أن طرحنا طرح حديث يروم كسر هذه التابوهات التي وضعها الفكر المنغلق وزلزلة ما استقر في الضمير الديني من قناعات متخلفة تحتاج إلى إعادة نظر وتعديل وربما اجتثاث.
زهرة الثابت

• باحثة وأكاديمية تونسية متحصلة على الدكتوراه متخصصة في اللغة والحضارة العربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية القيروان والاختصاص الدقيق “أديان مقارنة”، مهتمة بالنصوص المقدسة. تشغل منصب أستاذة التعليم الثانوي المميز.
لها مجموعة من المنشورات، من بينها: “داور في الثقافة العربية: الثوابت والتحولات” سنة 2008 و”العشق في النصوص المقدسة” سنة 2018 و”اللذة في النص الديني المقدس”، أسهمت في بعض الكتب الجماعية منها: “التسامح في الثقافة العربية” إصدارات مؤمنون بلا حدود 2018، وكتاب “أدبية الكتابة الصوفية” منشورات ألفا للوثائق الجزائر 2019، “المرأة بين فكي الهيمنة الذكورية والتدين”، المركز الديمقراطي برلين 2019 وغيرها. ولها العديد من المقالات المنشورة في مجلات دولية محكمة ومصنفة عالميا، كما أنها عضو بالعديد من المجلات الدولية وببعض المؤسسات الأكاديمية.
العرب: بما أن كتبا ومصادر كثيرة في الثقافة الإسلامية عرضت بالتفصيل “الأوضاع الجنسية” للرجل والمرأة لغرض الإشباع طالما أن المتعة مطلوبة وغير محرمة. لماذا نعيش أشد التناقض في مجتمعاتنا العربية من تضييق على الشباب بقيود مادية وعادات وتقاليد متخلفة لتحقيق الزواج، ونجرم بحدّة العلاقات غير الشرعية حال الوقوع فيها من الشباب والبنات؟
زهرة الثابت: لم يكن موضوع المتعة في نصوص العرب المسلمين موضوعا محظورا أو مسألة ممنوعا التفكير فيها، والدليل على ذلك وجود عناوين لافتة في هذا الغرض ككتب “رشف الزلال من السحر الحلال” و”الوشاح في فوائد النكاح” و”نواضر الأيك” و”شقائق الأترج في رقائق الغنج” التي خطها جلال الدين السيوطي. أو كتاب “نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب” للتيفاشي أو كتاب “رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه” لأحمد بن سليمان أو كتاب “تحفة العروس ومتعة النفوس” لأبي عبدالله التيجاني.
إباحة الحديث عن الجنس اقتضته في الحقيقة حياة العربي زمن الجاهلية، هذا العربي الذي عرف نكاح الخدن ونكاح الاستبضاع ونكاح البدل ونكاح المقت، أضف إلى أن العرب قد عرفوا أيضا الزنا في الأوساط القرشية واللواط والسحاق والتخنث. واستمر موضوع المتعة في صدر الإسلام مع بعض الصحابة أيضا حتى نزل نص الوحي فقنن المتعة محاولا أن يخرج بالمسلم من فوضى الجنس إلى النظام المتعي وما قصة لوط مع قومه في القرآن الكريم إلا دليلا قاطعا على خشية الإسلام من القذارة لأنها “إساءة للنظام” كما تقول (Mary Douglas).
منتهى ما كان يصبو إليه القرآن الكريم إنما هو الطهارة لأنها مقصد الجنس الأسمى. وقد كانت قصة ميلاد المسيح العجائبية في أبعادها القصية انتصارا لطهارة الجنس. وجرأة العرب المسلمين في طرق موضوع الجنس لا يراد بها التشريع لقضية المتعة بقدر ما يراد بها الكشف عن حقيقة الإنسان وحقيقة الرغبة بما هي صفة مكينة فيه حتى جاز تعريفه بأنه كائن راغب. مثلما عرف بكونه كائنا مفكرا. بل لعل ما دفع هؤلاء إلى الكتابة في موضوع الجنس هو افتقارنا إلى نصوص توضح الحياة الجنسية بين الرجل والمرأة وافتقارنا إلى نصوص تصور عالم المتعة في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثلا، إذ لِمَ لَمْ يشر القرآن الكريم إلى حياة الزوجين الجنسية إلا في مواطن قليلة من النص؟ ولم تكتم التاريخ عن حياة محمد الجنسية في حين أننا نجده قد أسهب في الحديث عن قصصه مع زيجاته وكيفية معاملته لهن؟
حديث العرب عن الجنس إذن كان مشروعا وهم لم يجدوا حرجا في طرقه والكتابة عنه ووصف طرائق ممارسته في أسلوب لا يخلو من الدعابة أحيانا. فكان تعاملهم مع هذه القضية تعاملا مرنا يبعث على الأريحية ويرغب في الاطلاع على كتاباتهم وعلى فكرهم خلافا لمعاملاتنا نحن اليوم مع هذا الموضوع الذي سيجناه بسلطة الأعراف والتقاليد، إذ الشاب لا يمكن له أن يفلت من ربقة النواميس والعادات، وإن أفلت ووقع في الجريمة عدّ مجرما وأقيم عليه الحد. وهي ممارسات تعكس جهلا وواقعا متخلفا لا زلنا نعانيه وهي ممارسات تبدو إن تعمقنا في جوهر الإسلام الحقيقي مناهضة لديننا الذي هو دين يسر لا عسر فنبينا محمد صلى وسلم كان يزوج الصحابيات بمهور بسيطة حتى ييسر الزيجة.
أفكار ضد التطرف
العرب: “صار من حق كل مسلم، بل من واجبه في رأيي أن يعود بنفسه إلى القرآن وأن يقرأه بعقله هو وأن يتفاعل معه بضميره”، ما رأيك في هذا الرأي للدكتورة زهية جويرو هل تجدينه صالحا للتطبيق؟
زهرة الثابت: نعم أجاري الدكتورة زهية جويرو في أنه فعلا من حق بل من واجب أي مسلم أن يعود إلى القرآن الكريم ليقرأه بعقله ويتفاعل معه بضميره استئناسا بقول الله تعالى “أفلا يتدبرون” هذه العبارة التي تواتر ذكرها في موضعين مختلفين من القرآن الكريم هما “النساء: 82″ و”محمد: 24”. فالمشرع في هذين الآيتين يدعو إلى قراءة نص الوحي الإسلامي وتدبر معانيه القصية لأنه نص ملغز وغامض في الكثير من مواطنه. وغموضه ذاك – وهو سر إعجازي فيه -هو الذي يدفعنا إلى القراءة والتأويل وإعادة الفهم حتى قيل إن حضارتنا هي حضارة نص.
قراءة المسلم الخاصة لهذا النص يشرعها ما وقعت فيه المؤسسة الدينية الفقهية نفسها من مغالاة وتزييف وربما سوء فهم لآيات القرآن الكريم إلى حدّ باتت فيه مدعية للأصالة وأنها مالكة للحقيقة المطلقة وذاك ما ولّد التكفير والتطرف في الدين والفكر وما عمّق الهوة بين الأنا والآخر، حتى بتنا في تناحر واقتتال أبدي. بل إن ادعاء الحقيقة في فهم القرآن ولد التعصب الديني والإرهاب الذي نخر جسم الأمة العربية منذ الأزل وراح ضحيته أعلام كثيرون فما حصل من محن مع الغزالي مثلا أو مع ابن تيمية أو مع ابن رشد أو غيرهم ليس إلا نتاجا لهذه الأنانية العمياء ولهذا الوهم بامتلاك الحقيقة الذي تدعيه كل ملة أو نحلة أو مذهب.
وعليه إذا فقد آن الأوان لأن نعيد النظر في ما وصل إلينا من إرث تفسيري ونراجع هذه القراءات بفكر مستنير ثاقب مستأنسين بأدوات فهم علمية حديثة وبمنهج في القراءة والتفسير ينأى عن الذاتية والانطباعية.
المرأة التونسية
العرب: الإعلام التونسي ماذا قدم للمرأة وكيف تعامل معها؟
زهرة الثابت: الإعلام في تونس شقان، أحدهما ينافح عن المرأة التونسية وحقوقها في ظل ما ينص عليه الشرع وما يقره الدستور، حريص على أن يسوّق لصورة المرأة التونسية المثقفة الراقية والواعية والمحترمة، والآخر يحاول أن يروج لصورة امرأة متحررة من ربقة كل القيود محاولا بذلك الإساءة إلى المرأة التونسية عموما.
ولعل الترويج لحادثة المرأة التي شرعت لنفسها الدخول ليلة زفافها برجلين، وتصريحها بذلك علنا وأمام الملإ ودون احترام لديننا وللمواثيق الدولية الإنسانية، يعد وجها من وجوه الإعلام المدمر الذي ربما تسيره أجندات غربية غايتها المساس من ديننا ومن هويتنا ومن منظومتنا الأخلاقية التي ربينا عليها.
العرب: تطالب بعض الناشطات والكاتبات داخل تونس بفرض منع “تعدد الزوجات في تونس” ألا تحتاج هذه القناعة إلى مراجعة؟ ألا تجدين فيها ظلما لآخرين وتعدٍّيا على حقوقهم؟
زهرة الثابت: لا جدال في أن التعدد شرعة الله التي لا يمكن أن يعترض عليها المؤمن المسلم، ولكن هذا الحكم أملته ظروف تاريخية مخصوصة زمن النبوة ولربما كانت فيه رحمة للمسلم آنذاك. ولا ننكر أن كثيرا من الدول العربية كمصر والعراق والسعودية ودول الخليج غيرها تطبق هذا الحكم الإلهي. لكن قضية التعدد في تونس حسمها الدستور منذ زمن قديم مع الزعيم بورقيبة.
برأيي الشخصي لا تحتاج هذه القناعة إلى مراجعة لأن التعدد لا يليق بالتونسي خصوصا في هذا الزمن الراهن الذي بات فيه الرجل التونسي عاجزا عن إعالة أسرته، فما بالك لو صار مسؤولا عن أكثر من امرأة. فتشريع التعدد بتونس في نظري البسيط رهين توفر شرط القوامة والقدرة على الإنفاق وهو ما يفتقر إليه الرجل التونسي.