الحكومة المصرية تضحي بالشعبية لاستكمال المشاريع

استكمال المشاريع التنموية أولوية لدى الحكومة المصرية رغم التحديات الاقتصادية التي قد تؤجج الشارع ضدها، في ظل استمرار التضخم وانهيار قيمة الجنيه مقابل الدولار وتراجع القدرة الشرائية.
القاهرة - انتزعت الحكومة المصرية موافقة صعبة من مجلس النواب على قرض جديد بقيمة ملياري يورو (67 مليار جنيه) لاستكمال تنفيذ مشروع القطار الكهربائي السريع، بعد حالة شد وجذب بين النواب ووزير النقل كامل الوزير، وسط اتهامات برلمانية للحكومة بأنها فشلت في احتواء الأزمة الاقتصادية وتصر على استكمال مشروعات عملاقة مطلوب تجميدها.
عكس تمسك الحكومة بالحصول على القرض أنها حسمت موقفها من استكمال المشروعات القومية وفتح المجال لإمكانية تدشين أخرى، رغم مطالبات بإعادة تحديد الأولويات والتوجه نحو التعامل مع أزمات الغذاء والطاقة وارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل أكبر، والتي أحدثت تأثيرات سلبية على حياة شريحة من المصريين.
حملت الحكومة رؤية منطقية تتعلق بضرورة الاستمرار في ما بدأته، حيث وقعت عقودا استثمارية مع جهات دولية عدة لتنفيذ مشروعات عملاقة، بينها القطار الكهربائي ومشروعات عديدة في مجال النقل، يصعب التراجع عنها، لأنها اتفقت على خطط القروض المرتبطة بها، وحال توقفها ستصبح ملزمة بسدادها وفوائدها.
وصاحبت موافقة البرلمان على قرض القطار الكهربائي جدلا واسعا في العالم الافتراضي، وبدت ردود الفعل معبرة عن الدرجة التي وصل إليها الشارع من غضب جراء تمسك الحكومة بنفس السياسات التنموية التي تبدو مرتبكة، كونها تعاني من شح كبير في الموارد وتتفاوض مع مؤسسات دولية مانحة لمساعدتها بالقروض.
بات هناك شعور لدى الشارع المصري بأن ترويض المعارضة وإغراءها للمشاركة في الحوار الوطني منح الحكومة مساحة للتحرك باطمئنان لصمت القوى المدنية على الإخفاقات الاقتصادية لانشغال الأحزاب بتحقيق مكاسب سياسية من المشاركة في الحوار، مع أن الأولى فتح ملف المشروعات التنموية وتحديد جدواها.
خلال جلسة عاصفة، عقدت الأربعاء، انتقد برلمانيون الحكومة بأنها السبب في ارتفاع الديون المحلية والخارجية لإصرارها على جلب المزيد من القروض، كأنها لا تكترث بمجلس النواب وتحفظاته، حتى صار المواطن يجلس ليشاهد استكمال مشروعات لن يستفيد الناس منها حاليا، وتمول بقروض سوف تدفعها الأجيال المتعاقبة مستقبلا.
رفضت الهيئة البرلمانية لحزب الوفد (ليبرالي قريب من الحكومة) اعتماد المزيد من القروض لاستكمال مشروعات “لا قيمة لها”، مؤكدة أن الشارع لا يرحب بها ويعاني عدم وجود شبكة للصرف الصحي، فيما اتهم نواب الحزب المصري الديمقراطي (معارض) الحكومة بأنها أغرقت البلاد في الديون.
وبرر وزير النقل استكمال شبكة القطار الكهربائي السريع بأنها ستربط بين جميع الموانئ البحرية على البحرين الأحمر والمتوسط وصولا إلى جنوب مصر، بما يسهل نقل الركاب والبضائع والحصول على شبكة سكك حديدية سريعة وعصرية وآمنة، لدعم الاستثمار وإتاحة فرص عمل للشباب، وتعمير المناطق السكنية الجديدة بما يخفف العبء عن الوادي والدلتا، في وسط شمال مصر.
ودافع الوزير عن اتهام الحكومة بالفشل وإنشاء القطار لأغراض ترفيهية واستعراضية بأن المعارضين تحدثوا عن مخصصات مالية دون إدراك قيمة المكاسب المستقبلية، رغم أن القرض حسن وسيتم سداده على عشرين عاما، والمشروع يخدم رؤية الدولة بتحويل مصر إلى مركز للتجارة العالمية واللوجستيات، يربط شرقها بغربها.
كانت هذه من المرات النادرة التي تتطرق فيها دوائر برلمانية إلى حتمية وقف العمل بمشروعات قومية قبل الانتهاء منها، ما يتسق مع قناعات شريحة كبيرة من المواطنين تنظر لبعض المشروعات على أنها تعبر عن سوء فهم من الحكومة للأولويات.
ويؤيد معارضون الإنفاق الحكومي على المشروعات أحيانا شريطة أن يتم توجيه نفس المخصصات والقروض إلى ملفات أخرى تنموية أيضا تمس صميم احتياجات الناس، فالمواطن لا يطلب أن تقترض الحكومة لزيادة الرواتب، بل يمكن زيادة المشروعات الزراعية والصناعية، لكن لا توجه الأموال نحو إنشاء قطار يمر بين مدن صحراوية.
تستثمر الحكومة في صمت المعارضة عن توجهاتها الاقتصادية، بما يضمن لها عدم التفتيش في قضايا جدلية تضاعف من التذمر الشعبي ضدها، في حين يعيش الناس على حالة غضب واسعة، وتعتقد أن ترويض القوى المدنية يسهل لها استمرار سياساتها التنموية مهما كانت الظروف المالية ومعدلات الفقر والتضخم سلبية.
ما زاد من سخط الشارع، تصريحات تشاؤمية أعلن فيها وزير المالية محمد معيط وجود نية لدى الحكومة لزيادة رسوم الضرائب لسد الفجوة الشاسعة في موازنة الدولة للعام المالي الجديد، حيث تستهدف الحكومة الحصول على تريليون و350 مليار جنيه (حوالي 40 مليار دولار) عوائد ضريبية، ما يعني أن الناس على موعد مع أعباء جديدة تفوق قدراتهم المادية.
◙ استكمال مشروع القطار الكهربائي رغم مطالبات بالتركيز على أزمات الغذاء والطاقة وارتفاع أسعار السلع والخدمات
لم تترك الحكومة للناس فرصة دعم توجهاتها الاقتصادية لإصرارها على السير عكس الاتجاه، فقد ارتفعت معدلات الفقر وصارت برامج الحماية الاجتماعية قليلة الجدوى، مع ذلك تتمادى في مشروعات لا تحقق عوائد مباشرة في الوقت الراهن.
تعتقد دوائر سياسية أن الحكومة مهما كانت على صواب بعدم توقف مشروعات قومية ضخمة، مثل القطار الكهربائي، لعوائده التنموية مستقبلا، لكنها تتحمل الجزء الأكبر في حالة الرفض الشعبي لتوجهاتها الاقتصادية لأنها لا تشرح خططها وأهدافها، ولا تسعى لتجييش الناس خلفها لتكون هناك شراكة بين الطرفين حول هدف واحد.
وهناك ارتباك في توفير مخصصات مالية لقطاعات خدمية حيوية، مثل التعليم والصحة، وتتحجج الحكومة بالظروف الاقتصادية الصعبة ثم تمضي في استكمال مشروع كبير مثل القطار الكهربائي السريع، تكلفته الإجمالية تتخطى 25 مليار دولار، وهو رقم ضخم مقارنة بتكلفة تحسين جودة المدارس والمستشفيات المتهالكة.
وقال أمين عام حزب المحافظين مقرر لجنة الدين العام والإصلاح المالي بالحوار الوطني طلعت خليل إن الأزمة الأكبر عند الحكومة ترتبط برفضها التوازن بين الإنفاق على التنمية والمشروعات القومية، والخدمية التي تمثل أولوية قصوى عند المواطنين، على الأقل ليشعر الناس أن صوتهم مسموع لدى الحكومة.
وأضاف لـ”العرب” أن هناك غيابا واضحا لفقه الأولويات وسط عدم وجود مكون دولاري كاف، معقبا “لا أحد ضد التنمية، لكن الجميع ينشد مكاشفة الحكومة، فهي لم تشرح جدوى تنفيذ القطار الكهربائي بشكل متعمق، وكيف سيتم سداد القرض، وما عوائد المشروع مستقبلا، وبالتالي من الطبيعي أن تكون هناك معارضة مجتمعية”.
وأشار إلى أن الحكومة تتعامل مع بعض المشروعات بشكل “استفزازي” لأنها تفتقد التحرك نحو التنمية الشاملة، وتعاني التخبط في شرح وتفسير رؤيتها، ولا تقدم على المضي في مسارات متوازنة اقتصاديا وتنمويا وخدميا، وتختار التحرك في طريق واحد يخدم توجهاتها الذاتية التي لا تُرضي الشريحة الأكبر من المجتمع.
ويبدو أن الحكومة تغيب عنها خطورة تشوه صورتها بالاستمرار على نفس النهج الاقتصادي، رغم أنها من بادرت قبل شهور بإقرار خطة تقشفية للحد من الإنفاق إلى درجة أنها وجهت بمراجعة بعض المشروعات ثم تقوم بمناقضة نفسها وتوريط الموازنة بالمزيد من الديون عبر توسيع دائرة القروض.
ومع أن هناك مؤسسات دولية كبرى أشادت بالرؤية الاقتصادية للحكومة المصرية، وتوقعت أن تحقق الدولة معدلات تنموية معقولة، تظل المشكلة في تعامل الحكومة مع الملف الاقتصادي بأنه يخصها وحدها، ولا تقبل تفاوضا حول توجهاتها.
تمثل مشروعات السكك الحديدية الجديدة بداية لمنظومة حديثة منها شبكة القطارات الكهربائية السريعة والمونوريل، وتعد نقلة نوعية في مسار وسائل النقل بمصر.
وأوضح إبراهيم مبروك، أستاذ النقل وسكك الحديد بكلية الهندسة جامعة الأزهر، أن مواصلة الحكومة لمشروعات السكك الحديدية مهمة للغاية ويجب أن تكون بهدف توفير نقل جماعي محسن، لأن النقل الجماعي الحضاري ربما يدفع ملاك السيارات إلى تركها وارتياد وسائل النقل العامة.
وذكر لـ”العرب” أن الدراسات العالمية تؤكد أن وجود نقل جماعي محسن يوفر الازدحام المروري على شبكة الطرق بنحو 40 في المئة، ومصر بحاجة إلى ذلك، لتخفيض استهلاك الوقود وتقليل التلوث ومنع الحوادث على الطرق، وبالتالي مشروعات السكك الحديدية هي وسائل لتحقيق نقل جماعي حضاري في مصر.
وبدأت دراسة مشروع القطار السريع منذ عام 2015، وتم تفعيل القرار عام 2021، أملا في خلق منظومة متكاملة تربط بين كل الموانئ، المدن الصناعية، مناطق التنمية الجديدة، والعاصمة الإدارية في شرق القاهرة.
يُعرف مشروع القطار السريع باسم قطار العلمين وهو شبكة متكاملة من القطارات السريعة التي ستعمل على ربط جميع أنحاء الجمهورية ببعضها، على أن تكون الخطوة الأولى من المشروع هي الربط بين مدن البحر الأحمر والبحر المتوسط.
وتم إعداد دراسات الجدوى قبل الشروع في التدشين، وهي تحدد آليات التمويل والإنفاق خلال مراحل تأسيسها، وتشمل القروض من بنوك محلية ودولية، ثم تحدد آليات السداد من الأرباح مستقبلا مع مراعاة سعر الصرف وقتي الإنشاء والتشغيل.