الفضائيات العراقية.. ما كان وما يكون

أول أسباب الفشل والعجز والتخلف الذي تعاني منه الفضائيات في العراق هو اضطراب الوضع السياسي والأمني والاقتصادي وهيمنة المحسوبية والحزبية والشللية وضعف الوازع الوطني لدى أغلب مُلّاكها.
الأربعاء 2023/05/03
الفضائيات العراقية لم تنجح في كسب مشاهدين خارج حدود الوطن

بالرغم من الأرقام الفلكية التي تسربت أخبارُها عن المليارات التي استطاع كبار المشاركين في إدارة العملية السياسية العراقية تهريبَها إلى دول الجوار وأوروبا وأميركا، وحوّلوها إلى عقارات وشركات ومرابع ومزارع ويخوت وسيارات مذهّبة، إلا أن أيا منهم لم يتمكن، بكل هذه الأموال، من صنع فضائية مؤثرة محترمة تجلس إلى جانب الجزيرة وMBC والعربية والحدث، وأبوظبي، أو حتى خلفها ببضع درجات.

واقعا، وليس تجنيا، لا نعرف مواطنا عراقيا يعيش في دولة عربية، ولا نقول أوروبية وأميركية، وقد أدمن على أخذ آخر أنباء وطنه من فضائية عراقية، مثلما يأخذها من فضائيات عربية وأجنبية أخرى. كما أنه لا يعرف واحدا من جيرانه أو أصدقائه العرب أو الأجانب يشاهد قناة عراقية ويثق بأخبارها ويستمتع ببرامجها المغرية التي لا تفوّت.

وكان المفترض أن تكون قناة “العراقية” التابعة لشبكة الإعلام، وهي صوت الشعب العراقي وصورته بعمقه وتنوعه الثقافي والعلمي، على قدر المسؤولية، فتنافس الفضائيات العربية الناجحة المؤثرة، خصوصا وأنها تكلّف الدولة سنويا ما لا يقل عمّا تنفقه الجزيرة والعربية وBBC، ولكن نسبة من يشاهدها خارج العراق، وحتى داخله، أقل من القليل.

وما ينبغي التذكير به هنا هو أن العشرات من الإعلاميين العراقيين الخبراء الناجحين البارزين في البث التلفزيون والإعلامي الذين قامت، وما زالت تقوم على أكتافهم أهم الفضائيات العربية والدولية، ولم يفكر واحد في الحكومة أو في شبكة الإعلام باستقدامهم والاستفادة من خبراتهم من أجل مساعدتها على دخول الفضاء الخارجي بهيبة واحترام.

◙ المتداول في عراقنا الديمقراطي الجديد أن امتلاك فضائية لم يعد هدفا نبيلا غرضه خدمة المجتمع بل أصبح دليلا على الزعامة وسلاحا في معارك المصير التي يخوضها الزعيم مع خصومه بالأخبار والملفات الملفقة

وللعلم، لقد تم تأسيس شبكة الإعلام العراقية “بغية بناء إعلام حر ومستقل يتسم بالمهنية والنزاهة والحيادية والشفافية يخدم المصالح العامة للشعب العراقي ويعزز وحدة أبنائه، ومن منطلق أهمية الإعلام ودوره في بناء مجتمع ديمقراطي، بما يلتزم بمعايير البث العام المتعارف عليها دوليا، وبما يجعله منبراً يعبّر عن الرأي والرأي الآخر، ويوفر وسائل التربية والتثقيف والتسلية والترفيه”. هذا ما يقوله قانون الشبكة المصادق عليه من قبل البرلمان.

ولكن المعروف أنها، منذ تأسيسها، تحاول أن تتحرر من قبضة الزعيم، ولا ترغم على إرضاء رئيس الحكومة أو رئيس الحزب أو قائد الميليشيا أو المرجع أو شيخ القبيلة، وعلى عدم إغضابهم بخبر أو برنامج أو أغنية.

وحسب الإحصاءات الرسمية فإن في العراق اليوم 21 فضائية تلفزيونية، ولكن لم ينجح أيٌّ منها في كسب مشاهدين خارج حدود الوطن، أسوة بفضائيات الدول المجاورة الأخرى، أو من غير أسرة صاحبها وأفراد حمايته وأصهاره وأتباعه المقربين.

وأول أسباب هذا الفشل والعجز والتخلف هو اضطراب الوضع السياسي والأمني والاقتصادي، وهيمنة المحسوبية والحزبية والشللية، وضعف الوازع الوطني لدى أغلب مُلّاك هذه الفضائيات.

فلم يحدث في العراق، حتى في ظل جميع حكوماته السابقة، أن أصبح البقاء في الإذاعة والتلفزيون والصحافة للأسوأ وليس للأصلح، ولا للأكثر مهارة إعلامية ومهنية بل للمتطفلين الذين خدمهم الحظ فوجدوا من يتوسط لهم ويُقحمهم على مهنة الإعلام ليمارس النفاق والتلفيق والابتزاز، أو ليُبيّضوا وجه فخامة الزعيم.

وباستثناء أصحاب برامج الحوارات التلفزيونية الذين يعدون على أصابع اليد وهم من الذين يحترمون المهنة ويتمتعون بالثقافة والكاريزما والخبرة والأمانة والنزاهة والوطنية، فإن أغلب الآخرين الذين تحولوا إلى نجوم، ويتحكمون بالرأي العام العراقي أميّون، جهلة، فارغون، انتهازيون، ارتزاقيون، يعتقدون بأن مقاطعة الضيف بوقاحة، والتعالم والتعالي عليه، وإقحام آرائهم وعقائدهم وقناعاتهم الشخصية دليلٌ على شطارة المذيع.

وهناك بعض آخر منهم يبالغ في مهاجمة الفساد والفاسدين، ويكثر من إلقاء الخطب الرنانة عن الحق والعدالة والنزاهة، ويهدد بملفات فساد وفاسدين، ولكن عينه على المقسوم الذي سيضطر الحرامي لدفعه اتقاءً لشر ذلك المذيع الذي يتقن فنون التكسب والانتفاع. وقيل إن بطل “سرقة القرن” المدعو نور زهير قد اعترف بأنه دفع مكافآت مجزية قُدّر بعضُها بالملايين لفضائيات، ولمذيعين، ثمنا للسكوت عنه، وعدم تعميق الحديث عن مسروقاته المليارية الشهيرة.

◙ كان المفترض أن تكون قناة "العراقية" التابعة لشبكة الإعلام، وهي صوت الشعب العراقي وصورته بعمقه وتنوعه الثقافي والعلمي، على قدر المسؤولية، فتنافس الفضائيات العربية الناجحة المؤثرة

ومن هؤلاء المذيعين العاملين في هذه الفضائيات من اختار هذه المهنة طمعا في الوجاهة والشهرة والحظوة لدى أصحاب القرار، رغم أنه لم يتعلم أصولها ولم يتقن أدواتها. فالكثيرون منهم يفعلون باللغة العربية ونحوها وصرفها ما يفعله القصابون بالذبيحة. فكلمة “طِبْقا” تصبح “طَبَقا”، وحلب “الشَهْباء” تتحول إلى حلب “الشُهَباء”. أما الرفع والنصب والجر فأمور يحتقرونها ويسخرون ممن يطالبونهم بإتقانها.

والمتداول في عراقنا الديمقراطي الجديد أن امتلاك فضائية لم يعد هدفا نبيلا غرضه خدمة المجتمع، وتعميق وحدته وضمان أمنه واستعادة سيادته وكرامة أهله، بل أصبح دليلا على الزعامة، وسلاحا لازما في معارك المصير التي يخوضها الزعيم مع خصومه، بالأخبار والملفات الملفّقة، ومن أجل تلميع صورته وغسل سمعته من تهم العمالة والنصب والاحتيال والاختلاس.

وحتى الفضائية التي لا يموّلها أحد أحزاب السلطة، أو مرجعية دينية، أو قائد ميليشيا، أو تاجر مخدرات، أو مهربون مطلوبون للعدالة إلى خارج الحدود، أو واحدة أو أكثر من حكومات وأجهزة مخابرات عربية وأجنبية، فهي مملوكة لشاطر (حنقباز) متمرس في النفاق ومسح الجوخ، وحاذق في أكل الكتف، وعارف كيف يجعل فضائح أصحاب المليارات المسروقة كنزَه الذهبي الثمين.

مثال، يذيع خبرا أو برنامجا وثائقيا مفبركا يسعد به أحد زعماء المافيات الحاكمة، ثم يرسل إليه، في اليوم التالي، فاتورةً دسمة لا يستطيع إلا دفعها وهو ساكت. أما إذا لم يفعل فالملف القادم عن واحدة من سرقاته سيجد طريقه إلى الهواء، وعلى الباغي تدور الدوائر.

والأنكى من كل ذاك أن البعض من هؤلاء الصغار الذين أصبحوا كبارا بأموال السحت الحرام أصابه غرور العظمة، فصار يتخيل نفسه جمال عبدالناصر وصدام حسين ومعمر القذافي. فصرت تراه على فضائيته صباحا ومساءً، في كل نشرة أخبار، أو موجز، أو أقوال صحافة، وبين أغنية وأغنية، جالسا على كرسيه المذهب النفيس، يبتسم مرة، يكشّر مرة، يستقبل تارة، يودّع تارة، يوزع هدايا هنا وأوسمة تكريم هناك، والخدم والحشم وأفراد الحماية والسماسرة من حوله يصفقون ويهتفون بحياته وحياة وليّ عهده الأمين، إلا من رحم ربي، وهم أقل من قليل.

8