"البطحة": قراءة جريئة في الأبعاد السوسيولوجية لحياة الضواحي الجزائرية

عمل درامي عالج أحد المواضيع المسكوت عنها، وهو صراع الضواحي الشعبية والحياة الاجتماعية داخل المناطق المهمشة.
السبت 2023/04/15
عمل يسرد الكثير من واقع الجزائريين

الجزائر - قدم مسلسل ” البطحة” قراءة جريئة للوجه الآخر من حياة المدن والضواحي المهمشة، حيث تسود الصراعات وتكتب العصابات تاريخها بفرض منطقها وقانونها بميزان قوة لا يعرفه إلا أصحابه، غير أنها مع ذلك فيها جوانب إنسانية بريئة وعفوية تبرز ما تبقى من الفطرة السليمة للإنسان، مقابل منسوب الظلم الذي تصنعه السياسات الرسمية خلف أحزمة وحواشي مدن موروثة، هي أقرب إلى مستنقعات لصناعة الانحراف والحرمان والتهميش، بدل أن تكون فضاء للحياة.

نجح السيناريو الجماعي لمسلسل “البطحة” الذي تبثه قناة “الشروق” الخاصة، حيث أعده الثلاثي نبيل عسلي ونسيم حدوش ومحمد الصغير بن داود، في إنتاج لغة درامية متقنة عبر نقل أمين ودقيق لقاموس شفهي وحركي، لا يٌتداول إلا في الضواحي الشعبية الجزائرية ذات الأبعاد السوسيولوجية والفكرية الخاصة؛ فهي مفردات ومصطلحات ذات دلالات خاصة لا توجد في أي لغة درامية أخرى.

ولعل الحبكة الدرامية للقصة والأداء المميز للممثلين واللغة المستعملة هي المنعرج الجديد في مسار الدراما الجزائرية الذي خط هذا الموسم عبر العديد من الأعمال المعروضة، على غرار “الدامة” و”البطحة” و”الفشوش” و “11 – 11” و”الاختيار الأول” وغيرها.

مخرج العمل الدرامي أخرج كل شيء في حياة الضواحي إلى العلن، بما في ذلك الانتهازية والسرقة، ودور الصراعات التافهة في إجهاض الحياة الإنسانية

وربما هو الموسم الأول الذي يتفرغ فيه المشاهد الجزائري لمتابعة مسلسل واحد على الأقل على شاشة أو أكثر، فقد شعر بأنه هو البطل أو صاحب دور ثانوي، عكس الحقبة السابقة التي نادرا ما تناغم معها لأنها كانت بعيدة عن عوامله، وحتى النخب التي تعود عليها باتت وجوها مستهلكة، فقد كان الكثير منها يؤدي أدوارا بدل أن يتقمص شخصيات أو يعيشها من الداخل لينال ثقة المشاهد.

وفي مسلسل “البطحة” قدم المخرج وليد بوشباح عملا دراميا عالج خلاله أحد المواضيع المسكوت عنها، وهو صراع الضواحي الشعبية والحياة الاجتماعية داخل المحتشدات والأحزمة السكنية المهمشة في زوايا وتخوم المدن، والتي باتت مرادفا للانحراف والمعاناة والتهميش، وحاضنة لمختلف الظواهر الاجتماعية السلبية.

و”البطحة” هي أرض مستوية، عادة ما تكون مسطحة وخالية من مظاهر العمران أو النبات، مما يؤهلها لأن تكون ملتقى لمختلف التناقضات والصراعات وتضارب المصالح بين المحيطين بها، وهناك يدون جزء من التاريخ الشعبي والشفهي وتصنع الذكريات التي تلاحق أصحابها حتى ولو هاجروا إلى أقاصي الأرض أو انتقلوا إلى العيش في المنتجعات والضواحي الراقية.

ثلاثة زعماء لثلاث ضواح هم “اللاز” و”بونار” و”الفرطاس”، وهي الأدوار التي أداها على التوالي نبيل عسلي ونسيم حدوش ورضوان مرابط، إلى جانب نخبة من الممثلين الشباب منهم من ظهر لأول مرة على شاشة التلفزيون كالطفل يانيس عوين الذي أدى دور “هشام”.

أبطال البطحة يعيشون في ضواحي عريقة، لكنها بسيطة وفقيرة وأهلها معدمون، لم يجمعهم الطموح والرغبة في تغيير حياتهم إلى الأحسن، بل فرقهم كل شيء حتى ولو كان تافها، فهناك تجتمع مشاعر التضامن والتقارب مع السرقة والنصب والاحتيال، وحتى الفنان المفعم بالحيوية لم يستطع التكيف مع ذهنية “الحومة” (الحارة) رغم أنه ابنها.

المخرج وليد بوشباح، يبدو أنه لم يقل أي شيء عن حياة الضواحي، فقد تفادى الإشارة إلى أن هذه المجمعات السكنية كانت أحيانا حاضنة لأفكار التشدد والتطرف في الجزائر وغيرها، لكنه أعاد إلى الأذهان سيناريو صراعات القبائل العربية في قديم الزمان التي أبادت الناس وأسست لأحقاد وضغائن كبيرة، والقطيعة بين الأرحام وحظر الزواج، ولذلك ظل الخلاف بين “اللاز” و”بونار” عائقا في مشروع زواج “العكشة” من “فطومة”، لأن زعيمي الحارتين لم يريدا ذلك بسبب صراعهما.

uu

لكنه حمّل السلط العمومية مسؤولية تغذية وضعية عالم الضواحي المهمشة؛ فالشرطي الذي يكرس المقاربة الأمنية في حل الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية، لم يكن يهمه إلا تجنيد العناصر لتزويده بالمعلومات والأخبار عن جنح السرقة والاعتداءات، وضمان الأمن في الضواحي المذكورة، ومسؤول البلدية كاد يتسبب في مواجهات بين سكان الضواحي الثلاث، بسبب مشروع الملعب الذي لم يكن بتاتا ضمن اهتمامات السكان.

فبمجرد الإعلان عنه في منتصف البطحة، بدأت الحسابات الضيقة بين زعماء الضواحي، الذين لم يفكروا أصلا في استغلال الملعب للترفيه وممارسة الرياضة، فمنهم من فكر في تحويله إلى فضاء للحفلات والأعراس والمآتم، وآخرون أرادوا استعماله كمرعى للحيوانات أو تأجيره كسوق لبيع الخضار، بينما رأى البعض الآخر أن الملعب سيدر أرباحا على نشاطه التجاري في البقالة والمقهى، أو سيتحول إلى حظيرة لركن السيارات وغرس الحشائش الغذائية.

ولأن البطحة كانت محل اتفاق بين الضواحي على عدم المساس بها، فإن المشروع غذى خلافات عميقة كادت تتحول إلى مواجهات، لكن عشوائية سلطة البلدية أوقفت المشروع وانتهت جولة من جولات الصراع في آخر المطاف.

مخرج العمل الدرامي أخرج كل شيء في حياة الضواحي إلى العلن، بما في ذلك الانتهازية والسرقة، ودور الصراعات التافهة في إجهاض الحياة الإنسانية، كالعلاقات العاطفية وتوقيف مشروعات زواج، لاسيما بين “اللاز” و”ربيعة”، وبين “حبيبة” والمغترب في دبي، وحتى اقتراب “اللاز” من “سولاف” باء بالفشل بسبب الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، لكن حضور اللحظات المشرقة المغروسة في ركام الضواحي كان نادرا.

13