السعودية كبلد طبيعي في ثراء الأرقام والنفس

هناك معادلة "طبيعية" للثراء. هي، ما تصنعه بنفسك. وهو ما يصنع من ثراء الأرقام، ثراء للنفس.
الخميس 2023/04/13
السعودية بلد يتغير بسرعة الآن

السعودية لم تبخل في العطاء للدول العربية والإسلامية التي وجدت نفسها في ضائقة. اعتبرت الأمر واجبا يتعلق بمكانتها الإقليمية، فضلا عن كونه واجبا إنسانيا ودينيا.

هذا ما ظل يقف وراء الاعتقاد السائد بأنها بلد ثري. البعض يعتقد أنها بلد غارق في الثراء. وهذا صحيح في ثراء النفس، وغير صحيح في ثراء الأرقام.

يبلغ عدد سكان السعودية نحو 36 مليون نسمة. 11 مليونا منهم من محدودي الداخل، أو حتى فقراء يتلقون مساعدات من الدولة.

نحو ملياري ريال، أو ما يزيد قليلا عن 500 مليون دولار، تنفق دوريا منذ العام 2017 لـ”حساب المواطن” لدعم الأسر والأفراد من محدودي الدخل. وعلى الرغم من أن الغاية من هذا الحساب كانت مؤقتة لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، إلا أنه ظل يتجدد حتى بلغت الدفعات 65 دفعة.

يكشف هذا الواقع عن أمرين على الأقل. الأول، هو أن السعودية لا ترفل في نعيم لا نهاية له، وبالتالي فإن قدرتها على العطاء تظل محدودة، حتى وإن لم يظهر عليها ما يشير إلى ذلك. والعطاء الذي غالبا ما كان يتم تقديمه من دون حساب، صار من الواجب التدقيق فيه، أو تقديمه من خلال أطر وتوظيفات جديدة.

والثاني، هو أن حاجتها إلى التحديث الاقتصادي مدفوعة بحزمة من الحقائق القاهرة التي يتعين أن تؤخذ بعين الاعتبار.

فدولة الـ36 مليون نسمة، تحتاج أن توفر أكثر من مجرد الريع النفطي لضمان استقرارها الاجتماعي. ومع ارتفاع مستويات التعليم، فإن سوق العمل يتعين أن يوفر وظائف جديدة عاما بعد آخر. وهو ما يعني أن البلاد بحاجة إلى اقتصاد حديث، متنوع، يوفر مصادر لعائدات جديدة، كما يوفر فرص عمل.

الالتفات إلى إعادة البناء الاقتصادية والاجتماعية يعني تقليص مساحة الانشغال بالمشكلات مع الخارج وهو ما يُملي الإطلال على العلاقات مع المحيط الإقليمي والدولي من الزاوية {الطبيعية} الوحيدة وهي المنافع المتبادلة والمصالح

من المفيد أن توضع هذه الصورة في سياق نسبي. إذ يبلغ إجمالي الناتج المحلي في السعودية نحو 860 مليار دولار سنويا بحسب تقديرات العام الماضي. وهذا يعني أن حصة الفرد من هذا الناتج لا تزيد عن 23 ألف دولار سنويا.

هذا البلد الذي يعد أحد أكبر مصدري النفط في العالم، وهو القائد الفعلي لمنظمة “أوبك”، ليس أغنى من إسبانيا، وهي بلد مستهلك لمصادر الطاقة. إذ يبلغ ناتجها الإجمالي نحو 1.4 تريليون دولار، لعدد سكان يبلغ 47 مليون نسمة، ما يجعل من حصة الفرد من هذا الناتج تبلغ نحو 29 ألف دولار سنويا.

لا يُنظر إلى إسبانيا على أنها بلد واسع الثراء كما يُنظر إلى السعودية، ولكن الواقع يقول شيئا آخر.

العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز كان يعرف من قبل أن يتولى زمام القيادة أن بلاده سائرة في طريق تملأه التهديدات والعواصف ما لم تشرع بإعادة بناء جذرية وشاملة لاقتصاد الريع الذي يعتمد على النفط. مكانة البلاد وسط مليار ونصف مليار مسلم يمكن أن تتزعزع. ودورها الإقليمي يمكن أن يتراجع، ما لم تتوفر لها موارد جديدة، بل وما لم تتحكم بمواردها القائمة على نحو مختلف.

كان يعرف أيضا أنه بحاجة إلى قائد شاب، ذي رؤية ناضجة، لخوض معركة تحوّل تستغرق، في حدودها الدنيا، ثلاثة عقود على الأقل من الزمن.

بدأ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من مكافحة الفساد أولا. قناعته الراسخة، هي أن أي مشاريع تنمية سوف لن تأتي بالعوائد المنتظرة منها إذا حفّ بها الفساد.

السعودية بلد يتغير بسرعة الآن. وأحد أبرز مظاهر التغيير هو أنه يبدو كـ”بلد طبيعي” كسائر البلدان، من ناحية تكوينه الاجتماعي، ومن ناحية اقتصاده وعلاقاته الإقليمية والدولية.

التكوين الاجتماعي يقول، بدلالة الـ11 مليون مستفيد من “حساب المواطن”، هو أنه بلد فيه الفقير وفيه الغني. وهو ما يعني أيضا أن لديه مشاكله الخاصة التي يتعين أن ينصرف إلى معالجتها بما يتوفر له من قدرات.

الملك سلمان بن عبدالعزيز كان يعرف من قبل أن يتولى زمام القيادة أن بلاده سائرة في طريق تملأه التهديدات والعواصف ما لم تشرع بإعادة بناء جذرية وشاملة لاقتصاد الريع الذي يعتمد على النفط

أما من ناحية الاقتصاد، فإنه إذا كان بالإمكان وضع عنوان واحد لـ“رؤية 2030” التي طرحها ولي العهد السعودي، فهو “تنويع الاقتصاد وتوطين الوظائف”. العيش على عائدات الريع النفطي وحدها عمل انتحاري بكل معنى الكلمة، حتى ولو بدا أنه مصدر لثراء لا ينضب. الحقيقة التي أثبتتها الطفرة النفطية الأولى في مطلع سبعينات القرن الماضي، هي أنه كان ثراء مزيفا وناضبا. ليس لأنه فتح أبوابا للهدر فحسب، ولكن لأنه لم يسهم في بناء مصدر جديد لتمويل المتغير الاجتماعي أيضا. وهذا طريق عريض للإفلاس. مشاهد من نماذج هذا الإفلاس متاحة الآن في العراق يمكن التمعن فيها. كما يمكن التمعن في عواقبها، حيث يجوز توقع كل شيء.

الالتفات إلى إعادة البناء الاقتصادية والاجتماعية يعني أيضا تقليص مساحة الانشغال بالمشكلات مع الخارج. وهو ما يُملي الإطلال على العلاقات مع المحيط الإقليمي والدولي من الزاوية “الطبيعية” الوحيدة: المنافع المتبادلة والمصالح.

لا تستطيع أن تطلب من إسبانيا، وهي أكثر ثراء ماديا من السعودية، أن تتصرف بمواردها بروح العطاء أو الكرم، أو أن تعالج لك مشكلات لم تعالجها بنفسك.

المساعدات لن تفنى. ولكن لم يعد من الواقعي النظر إليها على أنها تحصيل حاصل، أو على أنها واجب مسبق من واجبات “التضامن”.

وهناك أطر عملية لتقديم المساعدات. مؤسسات الإقراض الدولية، والمصارف الإقليمية، ومنظمات التعاون، توفر منافذ واسعة للحصول عليها، سوى أنها تستند إلى معايير واشتراطات لكي تضمن حسن الاستفادة منها. هذا هو الشيء “الطبيعي”. وكل ما عداه لا نفع فيه.

أموال المساعدات السهلة كانت بدورها سببا من أسباب الإنفاق غير المتقن من جهة الطرف المتلقي. كما كانت سببا من أسباب الفساد أيضا على هذا الطرف.

فإذا كانت السعودية قد بدأت منعطف التغيير بمكافحة الفساد، فقد أصبح من الأولى ألا تشجع عليه بين من كانوا يستفيدون من عطاءاتها.

دع عنك أنه ظل هناك من يتصرف كجاحد شرير. تعطيه، يشكرك. لا تعطيه، يشتمك.

السعودية لا تحتاج إلى أن تتعرف على المزيد من هذه النماذج.

هناك معادلة “طبيعية” للثراء. هي، ما تصنعه بنفسك. وهو ما يصنع من ثراء الأرقام، ثراء للنفس.

8